كانت «أم فلوس» تعمل مثيرة إشاعات بالايجار في البلدة، فإذا اختلفت اثنتان من نساء البلدة استعانت احداهما بأم فلوس من أجل تشويه سمعة جارتها. ونتيجة ذلك، بقيت المرأة بلا زواج لأن أي رجل في البلدة لم يقبل الارتباط بها. وفي الأربعين من عمرها ساقت الصدفة بائعاً متجولاً إليها فوقع في هواها وتزوجا سريعاً. وفجأة تغيرت حال الرجل المادية وعاف البيع في القرى والبلدات واستقر في كنف أم فلوس. وبعد مضي نحو عامين عادت المرأة إلى عملها لأن الحال المادية بدأت تتراجع وعاد زوجها إلى مهنته السابقة، وأخذ يطوف بالقرى والبلدات منادياً على البضائع التي يحملها على ظهر حماره. في الفترة التي اعتكفت فيها أم فلوس في المنزل أخذت مكانها «العمشة» وراج سوقها بين نساء البلدة إلى درجة لم تستطع فيها أم فلوس إعادة الاعتبار الى نفسها إلا بعد جهد جهيد، وبعد أن استنبطت أساليب عمل جديدة منها استخدام آلة تسجيل صغيرة في المهمات الصعبة، وخصوصاً تلك التي تتطلب إشعال حملات تراشق بالإشاعات بين بعض النسوة. واشتهرت واحدة من هذه الحملات لأنها جرت بين اثنتين من النساء الوجيهات، زوجة المختار وزوجة ابن زوجها. وفي هذه الحملة استخدمت أم فلوس آلة التسجيل لتثبت بالصوت ما قالته كل منهما في حق الأخرى. واشتهرت عبارة قالتها زوجة المختار: «إذا مفتكرة حالها متعلمة وبتفهم لازم تلزم حدها لأني إذا حكيت كل علمها بيصير مثل تعليم الدفنس» (والدفنس من أسماء النساء ذوات الحمق، وحسبما جاء في كتاب أخبار الحمقى والمغفلين، الورهاء والخرقاء والدفنس، وغيرها من الأسماء). لأن زوجة المختار لا تعرف معنى «الدفنس»، وهي سمعتها في أحد المسلسلات التلفزيونية التي كانت تعرض أيام كان التلفزيون باللونين الأبيض والأسود، وأم فلوس جاهلة باللغة أيضاً تحوّلت «الدفنس» إلى لغز شغل نساء البلدة لفترة من الزمن. في تلك الأثناء استغل زوج أم فلوس الوضع وأخذ يقدم استشارات لغوية لتفسير كلمة «الدفنس»، وكلها كانت من بنات أفكار الرجل، ولا علاقة لها بالمعنى الصحيح للكلمة. هذه الكلمة تحولت إلى شغل شاغل لأهالي البلدة لأيام عدة، وأخذت أم فلوس وزوجها يجنيان فوائد البلبلة السائدة في البلدة. لبنان الآن يعيش حالاً أشبه بتلك التي عاشتها البلدة أثناء حرب زوجة المختار وكنة زوجها، إذ على رغم كل ما يشهده البلد من قلاقل أمنية وشبه فراغ سياسي في السلطة التنفيذية واشتداد الأزمة الاقتصادية وزيادة الاعتماد على الاستدانة من الخارج، وتالياً زيادة الارتهان إلى هذا الخارج، ينشغل الشعب اللبناني بسلسلة من الاشاعات التي نسبت إلى أحد المنجمين الذين ازدهرت سوقهم في السنوات الاخيرة وأصبحوا جزءًا من الطاقم السياسي اللبناني. هذا الطاقم الذي لم يستطع منذ العام 1989 حتى اليوم وضع عملية إعادة بناء الدولة موضع التطبيق. وبدلاً من ذلك، أصبحت في لبنان قضية تعيين هذا الموظف أو ذاك، المحسوب على هذا الطرف أو ذاك، أكبر بكثير من مسألة إعادة بناء الدولة. وبدلاً من البحث في الاساليب الكفيلة بإخراج البلاد من الحلقة المفرغة للأزمة الاقتصادية، أخذت مسألة تنحية رئيس الجمهورية مساحة واسعة من الاهتمام السياسي، وكأن مشكلات البلد كلها ستحل في تنحية رئيس الجمهورية، علماً بأن الحكم في لبنان يدار عبر شراكة ثلاثية مرتبطة بتحالفات مناطقية وطائفية، ما يعني أن تنحية هذا الموظف أو ذاك يجب أن يقابلها تنحية المحسوبين على الطوائف الأخرى. ولقد رأينا كيف استنفرت الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس عندما طرح هذا الموضوع في التداول السياسي، واعتبرت شريحة واسعة من السياسيين اللبنانيين أن تنحية الرئيس هو مسٌّ بحصة هذه الطائفة من الحكم، في لبنان الكثير من القضايا أكثر أهمية من تعيين موظف مهما علا كعبه، وإذا توقفنا قليلاً عند كلام وزير الداخلية السابق سليمان فرنجية في الليلة التي سبقت اغتيال جبران تويني، وخصوصاً ما قاله في الشأن الأمني لوجدنا أن لا أحد في لبنان في منأى عن التهديد بالاغتيال، فعندما يقول فرنجية: «إن الامن في لبنان هو أمن معنوي»، فان هذا يعني أن لا أمن في لبنان، وأن لا رئيس الجمهورية ولا الحكومة ولا الأكثرية النيابية والاجهزة الأمنية قادرة على ضبط الأمن في البلاد. وهذه الأخيرة أثبتت فشلها منذ أكثر من خمس سنوات، عندما عجزت عن كشف الضالعين في جريمة اغتيال القضاة الأربعة، ولاسيما أن هؤلاء قتلوا وهم تحت قوس المحكمة وضمن نطاق أمني وبحماية القوى الأمنية. لقد فشلت السلطات التنفيذية المتعاقبة منذ العام 1990 في إنجاز مشروع الاصلاح الإداري، وأقله فيما يتعلق بتجديد مؤسسات الدولة من خلال ضخ دماء جديدة في الإدارة، وفشل الطاقم السياسي، الموالي والمعارض، في حماية المال العام اللبناني وكف أيدي المافيات الأمنية وغير الأمنية، أكانت سورية لبنانية مشتركة، أم كانت لبنانية خالصة، عن العبث بمقدرات البلاد. وفشل لبنان الرسمي في الاصطفاف في مواجهة آلة القتل التي تعمل على إعادة إنتاج أسباب الحرب الاهلية، والمثيرة للقلاقل الأمنية. بعد كل هذا الفشل، تصبح الإشاعة في لبنان اليقين الوحيد الذي يأخذ الناس به، ولذلك نجد أن أي منجّم يتحدث عن حوادث متوقعة سيصدقه الناس، بينما لن يصدقوا كل الطاقم السياسي اللبناني الذي أصبح خطابه أشبه بالتنجيم وأكثر قرباً من الخطاب السوقي الذي يعف عنه حتى الأطفال الصغار. والسؤال: هل الطاقم السياسي اللبناني يريد إثبات أنه بحاجة دائماً إلى الوصاية من الخارج، أم هو لم يستطع التعلّم من التجربة؟ وبالتالي باتت الحاجة ملحّة إلى تنحية الطاقم كله، وليس رئيس الجمهورية وحده الذي هو جزء من المشكلة ولكنه، ليس المشكلة كلها
العدد 1203 - الأربعاء 21 ديسمبر 2005م الموافق 20 ذي القعدة 1426هـ