العدد 1202 - الثلثاء 20 ديسمبر 2005م الموافق 19 ذي القعدة 1426هـ

المصالح السياسية أهم من حقوق الإنسان... حتى في ألمانيا

سمير عواد comments [at] alwasatnews.com

احتاج البرلمان الألماني إلى نحو عام كي يعقد جلسة خاصة لمناقشة قضية خطف المواطن الألماني من أصل لبناني خالد المصري على أيدي عملاء الاستخبارات الأميركية «سي آي إيه»، وحجز حريته في أفغانستان على رغم أنه أكد براءته من تهمة الإرهاب. حتى بعد الجلسة البرلمانية التي تمت الأربعاء الماضي، مازال السؤال المهم يتكرر: لماذا يتصرف المسئولون الألمان وكأنهم لم يعرفوا شيئا عن مصير خالد المصري إلا بعد الإفراج عنه؟ وكان قد اختفى أثره مدة نصف العام، كما قال البعض إنه اطلع على القضية بواسطة وسائل الإعلام. ثم لماذا احتاج البرلمان لكل هذه الفترة الطويلة حتى دعا لهذه الجلسة؟ منذ تاريخ الرابع من ديسمبر/ كانون الأول، يعرف العالم أن أحد أعضاء الحكومة الألمانية على الأقل كان على علم بالتجربة المريرة التي تعرض لها خالد المصري. فقد ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أن السفير الأميركي وقتذاك في برلين، دان كوتس، قام بعد وقت قصير من الإفراج عن خالد بإبلاغ وزير الداخلية الألماني آنذاك أوتو شيلي أن الـ «سي آي إيه» ارتكبت خطأ بحق مواطن يحمل الجنسية الألمانية. يذكر أن شيلي الذي يجلس في البرلمان يلتزم الصمت حيال هذه القضية فيما المعارضة الألمانية تعتقد أن حكومة المستشارة أنجيلا ميركل تسعى للتستر على ما تعرفه السلطات الألمانية عن قضية اختطاف المصري، كما تسعى للحيلولة دون تشكيل لجنة تحقيق برلمانية لكشف الحقائق. أما على الصعيد السياسي فإن ميركل التي ستزور واشنطن في مطلع العام المقبل والتي عاهدت نفسها أن تحسن العلاقات الألمانية الأميركية التي تضررت بسبب حرب العراق، لا تريد تعرض العلاقات إلى توتر جديد. وكشفت عملية استطلاع أجرتها مؤسسة «فورسا» لحساب محطة التلفزيون الإخبارية «ان تي فاو» أن غالبية الألمان يعتقدون أن الحكومة الألمانية لا تقف في هذه القضية إلى جانب الضحية خالد المصري.

الاميركان سربوا المعلومات

ويعتقد بعض المراقبين أيضاً أن إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش هي التي سربت معلومات للصحف الأميركية التي ذكرت قبل أيام قليلة على بدء وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس جولة أوروبية، أن حكومات أوروبية على علم بالنشاطات التي تقوم بها طائرات تابعة للـ «سي آي إيه» في مطارات أوروبية، إذ تقوم بنقل معتقلين ­ غالبيتهم عرب ­ إلى سجون في دول ما يسمى «القائمة السوداء»، وهناك يتعرضون للتحقيق والتعذيب بحضور عملاء الـ «سي آي إيه». ووفقاً لأقوال خالد المصري التي اكتسبت صدقية مع الوقت، فانه اختطف عند وصوله في نهاية العام 2002 حدود مقدونيا، ونقل إلى أفغانستان بطائرة تابعة للمخابرات الاميركية، توقفت في الطريق في مطار جزيرة مايوركا الاسبانية. ويرى المراقبون أن هدف واشنطن من فضح دور الحلفاء في أوروبا هو تخفيف حدة الاتهامات ضدها. ويقول المعلق الألماني المعروف نيكولاس ريشتر: «إن النتيجة المؤسفة لما قامت به الإدارة الأميركية كشفت عن أمرين: الأول أن الإدارة الأميركية ليست مسئولة فقط عن عمليات خطف الأشخاص ونقلهم إلى سجون في أنحاء العالم، بل إنها تقرر بنفسها ما يكشف عنه من معلومات. وهكذا فإن البرلمان الألماني أيضاً بحاجة لمثل هذه المعلومات لأن الحكومة الألمانية حجبتها طيلة الوقت عنه. لكن هذا لا يبرر صمت البرلمان طيلة هذه الفترة التي أمضاها خالد المصري في شرح قضيته لوسائل الإعلام الألمانية، وهو يقوم بذلك من دون كلل منذ أن قرر في يناير/ كانون الثاني 2005 إطلاع الرأي العام الألماني على قصته، وأدلى بتفاصيل عن تجربة العذاب». وحاول وزير الداخلية السابق أوتو شيلي التعتيم على القضية حين صرح قبل زيارة قام بها في فبراير/ شباط الماضي إلى واشنطن أنه سيبحث القضية مع المسئولين الأميركيين وأنه سيطلب تخليهم عن مثل هذه الأعمال في المستقبل. هذه أول أزمة تواجهها حكومة ميركل، ولم يكن قد مضى شهر على انتخابها. وتصرّ المعارضة التي تتألف من الحزب الليبرالي وحزب الخضر وحزب اليسار على الكشف عن خلفيات القضية وتهدّد في أسوأ الأمور بالدعوة لتشكيل لجنة تحقيق برلمانية. ويقول ريشتر: «الخبر السيئ في هذه القضية أن مواطناً ألمانياً تعرض للخطف، من البديهي أن تقدّم الدولة المساعدة له، وإذا فشلت في القيام بواجبها من حق البرلمان أن يحاسب الحكومة على تقصيرها. علاوة على ذلك فإن التغيير الحكومي ساهم في تغيير الأدوار. حزب الخضر الذي كان شريكاً في الحكومة السابقة يجلس اليوم في صف المعارضة، فعل تماماً ما فعله الحزب الاشتراكي، إذ التزما الصمت حيال القضية لأن لم يكن في مصلحة الائتلاف الاشتراكي الأخضر الكشف عن دور وزير الداخلية شيلي. كما أن الاتحاد المسيحي الذي كان في صف المعارضة ومعه أيضا الحزب الليبرالي، إذ كانا يأملان بتشكيل حكومة ائتلافية بعد الانتخابات، فضلا الصمت لأنهما كانا يدعوان باستمرار إلى تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. هذا الموقف السياسي كلف خالد المصري كثيرا وأشعره أن الدولة لا تسانده». ويعترف المعلق ريشتر بما يقوله كثير من العرب في ألمانيا: «لم يعر البرلمان الألماني أهمية لقضية خالد المصري لأنه في نظر غالبية الألمان عربي أكثر مما هو ألماني، بل منهم من حمله بعض الذنب لأنه أثار الشبهات بزيارته مركزاً إسلامياً يشتبه أنه معقل لإسلاميين متطرفين في مدينة أولم».

انه مجرد عربي،

ويرى بعض المراقبين أن السجال بين الحكومة والمعارضة لا يدور حول مصلحة خالد المصري الذي يعتزم محاميه مانفرد جنجيديك رفع دعوى ضد الولايات المتحدة أمام القضاء الأميركي، علماً أن خالد المصري كسب شهرة في الولايات المتحدة بواسطة وسائل الإعلام ومنظمات تدافع عن حقوق الإنسان، وإنما افتقار المعارضة لقضايا تثبت وجودها في البرلمان. الجلسة البرلمانية انتهت بنتائج مخيبة لآمال خالد المصري ومحاميه. كما تركت الأسئلة المهمة من دون إجابات. من وجهة نظر خالد المصري فإن الحكومة الألمانية لم تتجاهله طيلة هذه الفترة فحسب، بل فيها من يسعى إلى التشكيك به. فقد ذكر وزير الداخلية الجديد فولفجانغ شويبلي، الذي يرتبط بعلاقة وطيدة مع واشنطن، أن السفير الأميركي السابق كوتس، أبلغ الوزير شيلي أن الإدارة الأميركية قدمت مالاً إلى خالد المصري مقابل تعهده بالسكوت. وردّ محامي خالد بالتأكيد نقلاً عن موكله عدم حصول خالد على تعويضات مالية. ومما ذكره وزير الداخلية أمام البرلمان أيضاً اعترافه بما نشر قبل أسبوع في الصحف الأميركية بأن محققين ألماناً استجوبوا المصري في أفغانستان، كما استجوبوا الألماني من أصل سوري محمد حيدر زمار في سجن بسورية، والألماني من أصل تركي مرات كونارز في معتقل غوانتنامو. وقبله نفت وزيرة العدل بيرجيت زبريس وجود تقصير في وزارتها، كما وصف فرانك فالتر شتاينماير كل ما أثير من اتهامات للحكومة السابقة بأنه هراء.

القرود الثلاثة

ويرى المعلق في صحيفة «زود دويتشه» هريبرت برانتل من نتائج تفاعل قضية خالد المصري وقوع أخطاء فادحة. إذ منذ هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 فإن الولايات المتحدة لم تعتبرها حافزاً لتجاهل أسس دولة القانون، وراحت تحارب من تسميهم بالإرهابيين بسلاح الإرهاب ثم جرت أوروبا خلفها. ذلك أن قضية خالد المصري إن دلت على شيء فإنها تعزز الاعتقاد بأن الحكومة ومؤسسات الأمن الألمانية ساعدوا الأميركان، الأمر الذي يذكر بقصة القردة الثلاثة الذين اتهموا بسرقة كمية من الطعام، الأول وضع يديه على عينيه ليقول إنه لم ير شيئا، والثاني أغلق أذنيه ليقول إنه لم يسمع شيئا، والثالث وضع يديه على فمه ليقول إنه لم يقل شيئاً. وبالنسبة إلى كثير من العرب الحاصلين على الجنسية الألمانية فإن قضية خالد المصري تقدم الدليل المحزن على أن الألماني من أصل عربي هو مواطن من الدرجة الثانية لا تحميه جنسيته من خطر «غوانتنامو» أو «باغرام». كما أن دولة ديمقراطية مهمة في العالم مثل ألمانيا ينبغي أن تدافع عن قيمها ومبادئها ومواطنيها من دون تمييز، وهذا ما لم تفعله في قضية خالد المصري

العدد 1202 - الثلثاء 20 ديسمبر 2005م الموافق 19 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً