نحن أمام واحدة من اللحظات الكاشفة، التي وتقدمها وتدقمها الانتخابات العامة التى جرت حديثاً في مصر وفلسطين والعراق. .. كل منها حملت دلالات واضحة تشير إلي تغيرات وقعت وأخرى منتظرة... في مصر انتهت واحدة من أهم الانتخابات العامة، ولم ينته ضجيجها ولم تتوقف هزات توابعها... كانت الانتخابات إيجابية كخطوة أولى من ناحية، وشابتها تجاوزات كثيرة من ناحية أخرى. جرت الانتخابات واعتبرها البعض هدفاً في حد ذاته، بينما هي ليست كذلك، إنها مجرد آلية من آليات العمل الديمقراطي، فثمة آليات أخرى كثيرة، حين تتزامل وتتكامل، تمضي العملية الديمقراطية إلى الأمام وعلى رغم أن إجراء الانتخابات عبر التصويت الحر المباشر وفي نزاهة، خطوة مهمة، فانها ليست الأولى ولن تكون الأخيرة.. وحين نعيد النظر بتأن، بعد أن هدأت قليلا العواصف التي صاحبت هذه الانتخابات، نقول إنه من حيث المبدأ يخطئ من يعتقد أن الديمقراطية قد تحققت، كما يخطئ الحزب الوطني ذو الغالبية لو تصور انه انتصر وحده، وأنه انتصر بالأساليب الديمقراطية وفي ظل الشرعية، وأن هذا يمنحه الحق في الحكم المطلق، من دون اعتبار للآخرين.. كذلك من الخطأ التاريخي تبسيط الأمور بظواهرها، إن تصور آخرون أن فوز كتلة الإخوان المسلمين بهذا العدد المفاجئ من المقاعد 88 مقعدا يشكل نسبة 20 في المئة من المجموع، إنما يعني اختراقا سياسيا يفتح كل الأبواب أمامهم، ويمنحهم الحق في الاستئثار المطلق بالمعارضة من دون اعتبار لباقي المعارضين اليوم كما يفتح باب الحكم أمامهم في المستقبل القريب، لكن هذا الحال يضع الحياة النيابية في مصر من خلال البرلمان الحالي، موضع جذب واستقطاب، يبن قطبين يتوجس كل منهما من الآخر، الحزب الوطني والحكومة والدولة من ناحية، وجماعة الاخوان ممثلة للتيار الإسلامي السياسي والديني من ناحية أخرى، وفي ضوء قدرة القطبين على التصارع والتضاغط، أو على الوفاق والتوافق، يتوقف مصير البرلمان الحالي، إما استكمالا لدورته التشريعية الكاملة لخمس سنوات، وإما الحل، ومن سوء حظ مسيرة الإصلاح الديمقراطية، أن تدخل هذه المرحلة، في ظل هذا الاستقطاب بقطبين متنافرين ظاهريا على الأقل حزب حاكم بغالبية برلمانية تصل إلى 73 في المئة بعد سياسة ضم وقضم وهضم المستقلين والمتمردين، تسانده الحكومة وأجهزة الدولة، ويرأسه رئيس الجمهورية، مقابل معارضة دينية المرتكزة والتوجه تتبوأ قمة سياسية علنية، لم تحزها في مصر على مدى أكثر من سبعين عاما من المحاولات،، بينما الغائب الأكبر في العملية، يتمثل في المؤسسة الحزبية المدنية، السياسية التي تضم نحو 20 حزبا معترفا به، لأن الفشل في الانتخابات الأخيرة أصابها في مقتل فراحت ضحية الاستقطاب الحاد الذي ذكرناه وكم هو فشل ذريع ذلك الذي أصاب الأحزاب السياسية، التي يفترض أنها الطرف الرئيسي في المعادلة السياسية، حين لم تستطع الحصول سوى على 6 مقاعد للوفد ومقعدين للتجمع ومقعدين لحزب الكرامة تحت التأسيس ومقعد لكل من الغد والأحرار، وصفر للحزب الناصري... والمعنى المقروء بوضوح هو تراجع المعارضه السياسية أمام الزحف الواضح لغالبية حزب الحكومة من ناحية، وأمام الصعود الملحوظ للمعارضة الدينية من ناحية أخرى،، ونعتقد أن هناك خللا في المعادلة لا يساعد على إنضاج وإتمام الإصلاح الديمقراطي، بهذه الأوضاع، يدفعنا إلى التشاؤم من احتمالات التطور السياسي الديمقراطي بخطى سريعة... لأن مصر ليست فقط الحزب الوطني والاخوان وحدهما، لكن الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي أوسع وأعمق، فلماذا غاب عن الانتخابات، أو غيب، بدليل أن عدد الذين شاركوا في التصويت فعلا هو 1,8 مليون ناخب، « طبقا لتقرير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان أهم المنظمات المدنية التي راقبت الانتخابات» في حين أن عدد المسجلين في الجداول الانتخابية يبلغ 32 مليونا، بالإضافة إلى تسعة ملايين لم يسجلوا بعد لأسباب مختلفة،، ونعتقد كذلك، أننا أمام حالة من حالات استنزاف الديمقراطية، قبل حتى أن تنمو وتنضج، والنتيجة قد تكون الفشل الكبير، ذلك الفشل الذي أصاب أطراف العملية السياسية التي خاضت الانتخابات بدرجات متفاوتة ما يترك آثاره على الحاضر والمستقبل إن تعمقنا في الأمر برؤية... والتحليل الصادق، والأمين يرى أن الحزب الوطني الحاكم منذ عقود فشل، إذا عرفنا أنه لم يحصل عمليا وواقعيا إلا على 34 في المئة من المقاعد، قبل عملية ضم وقضم المستقلين والممتمردين عليه بأساليب مختلفة، وهي نسبة تقل عن تلك التي حصلت عليها في انتخابات العام ،2000 والتي كانت 38 في المئة قبل ضم المستقلين أيضا.. وإذا لم يلجأ منظرو الحزب الحاكم إلى انكار هذه الحقيقة، فإن عليهم أن يدرسوا بدقة أسباب تراجع التأييد الشعبي له وعزوفه عن مرشحيه، وأسباب صعود نجم التيار الديني في مواجهته، وأسباب «التصويت العقابي والاحتجاجي» الذي مارسه كثيرون، ليس حبا في هذا ولكن كراهية في ذلك ما أدى إلى تراجع سطوته وهيمنته السياسية على رغم كل الآمكانات المادية والمعنوية اللامحدودة، وفي المقابل فإن الأحزاب السياسية المدنية الليبرالية واليسارية والقومية «الوفد والتجمع والناصرية» مطالبة، ليس فقط أمام قواعدها المحدودة، ولكن أساسا أمام المجتمع المصري باتساعه، بالمراجعة الشاملة لأوضاعها من ناحية النظرية الايديولوجية، ومن ناحية الممارسة، من دون الاكتفاء بالتحجج المعروف والقائل أن الاحزاب السياسية واقعة تحت الحصار، وان الحزب الحاكم ستعمد استنزفها وإضعافها، وهي حجج قائمة ومشهرة، لكنها لم تكن وحدها سبب الفشل، الذي جعل من الحزب الوطني وحركة الاخوان، قطبين وحيدين في الساحة بينما تلك الاحزاب منتكسة عاجزة في مقارها ومكاتبها، تشكو وتبكي وتتوجع، ونثق بأن هذا الوضع الملتبس إن كان لا يعبر بدقة عن حقيقة الحراك السياسي الاجتماعي الثقافي الفوار داخل المجتمع، وان كان يستنزف دماء الإصلاح الديمقراطي درجة بعد درجة، فإنه يضعنا أمام حزمة من التحديات، نجملها في الآتي: التحدي الأول : كيف نعيد الاعتدال والاتزان إلى العملية الديمقراطية، التي يعول كثيرون على مستقبلها في مصر، باعتبارها أكبر دولة عربية ذات الجذور الديمقراطية القديمة... كيف ننقذ هذه العملية من الاستقطاب القائم في البرلمان الحالي. بين القطب الأول الممثل في الحزب الوطني والحكومة بغالبيتها الميكانيكية، وبين القطب الثاني الممثل للتيار الديني بكل أطيافه المعتدلة والمتشددة في غياب حقيقي للقطب الاهم ونعني الاحزاب السياسية المدنية. كيف يحل الحزب الوطني صراعه الداخلي بين الاصلاحيين الجدد والمحافظين القدامى، وقد فاجأتهم نتائج الانتخابات بالحقيقة التي كانت خافية أو ضائعة... كيف يدير الاخوان حركتهم البرلمانية، ما بين الصدام الساخن، او الوفاق البرغماتي مع الحزب الوطني، وكيف تعيد الاحزاب السياسية الاخرى تقييم أسباب فشلها وغيابها... ثم كيف يفكر الجميع في استعادة ثقة الناخبين الحقيقيين الذين قاطع أكثر من 85 في المئة منهم هذه الانتخابات، ولماذا قاطعوا، وكيف نعيدهم إلى الحلبة السياسية في المشاركة الفعلية بعيداً عن الضغوط والابتزاز والتزوير والطعون والترغيب الساذج والترهيب الأحمق. التحدي الثاني: ان كان هناك بطل فائز في هذه الانتخابات فإنه ذلك التحالف المريب بين القوى المهيمنة، المال والدين والسلطة والعنف خصماً من حساب الممارسة الديمقراطية النظيفة والنزيهة... لقد لعب كل من أطراف هذا التحالف دوره بقوة وعلانية لمصالحة وحساباته، على حساب الوطن الذي نحلم بالعيش فيه، في ظل التحالف المضاد: العدل الاجتماعي والحرية الحقيقية. وعلينا جميعاً عبء الدراسة المتأنية العلمية الصادقة، لأسباب ونتائج فوز التحالف المريب، على التحالف المطلوب، حتى لا تتكرر الانتكاسة غداً وبعد غد... وهنا على القوة فنحن نراهن بقوة الجديدة الحراك السياسي الاجتماعي الثقافي في المجتمع التي طرحت خلال العام الاخير، بعض رؤاها وإن كانت لم تكتمل وتنضج بعد، لكنها حتماً ستنضج وعلينا قبولها والترحيب بها. التحدي الثالث: لايزال يتمثل في تأثير الضغوط الأجنبية، الأميركية والأوروبية، الهاجمة بقوة. لصوغ نموذج سياسي «ديمقراطي» على المقاس، لا ترضى به بديلاً... ولنقرأ بدقة أحدث تصريحات الرئيس الأميركي بوش، يوم 14 ديسمبر/ كانون الأول الجاري. التي قال فيها نصاً: «إن قيام ديمقراطية جديدة في العراق، سيكون نقطة تحول في الشرق الأوسط، تشجع الإصلاحيين في المنطقة... وان النجاح في الحرب على الإرهاب والتطرف، يتطلب تغيير حكومات، في دول أخرى في المنطقة، على غرار النموذج العراقي. فإن عرفنا أن الحكومات الأميركية والأوروبية، لم تكن راضية تماماً عن الانتخابات المصرية، وفق تصريحاتها المتكاملة والمتكررة «من دون ابتسار أو تغيير وتلوين» لأدركنا أن حكاية «تغيير الحكومات» التي ذكرها الرئيس بوش. جد لا هزل فيه ولا مداراة، وأن نموذج الديمقراطية في العراق «تحت الاحتلال هو المقصود والمطلوب»، الأمر إذن قد احتكم، فصرنا محاصرين، بين خيارين إما اجراء إصلاحات ديمقراطية حقيقية، تلبي مطالبنا الشعبية وبأيدينا نحن، واما فرض نماذج سياسية تفرضها الضغوط الأجنبية تلبي احتياجاتها وتحفظ مصالحها، وتتم بأيدي أميركا وحلفاكها. فهل حان أوان الاختيار الصادق الأمين... انه كذلك!
خير الكلام
يقول ابن الرومي:
أمامك فانظر، أي نهجيك تنتهج
طريقان شتى، مستقيم وأعوج
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1202 - الثلثاء 20 ديسمبر 2005م الموافق 19 ذي القعدة 1426هـ