انه عدو بالنسبة إلى سورية، لكنه بطل في لبنان. حصل على شهرة واسعة لمجرد أنه تسلّم ملف التحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري وحشر سورية في الزاوية. الآن يشعر المحقق الدولي ديتليف ميليس أنه لم يعد بوسعه مواصلة المهمة التي أسندها إليه الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، ويريد العودة إلى برلين، فمن المحتمل أن يعهد إليه منصب المدعي العام الفدرالي في العام المقبل، وفقا لمعلومات نشرتها صحيفة «فرانكفورتر ألجماينه». في تقريره الثاني الذي قدمه قبل أسبوع إلى مجلس الأمن كرّر ميليس اتهاماته السابقة إلى سورية. وتأمل إدارة الرئيس جورج بوش توافر أدلة تثبت ضلوع سورية ومسئوليتها عن اغتيال الحريري، ما سيوفر للقوة العظمى فرصة لدعوة مجلس الأمن لفرض عقوبات على سورية، لاسيما أن واشنطن تريد الانتقام ليس بسبب اغتيال الحريري وإنما لاعتقادها أن سورية تسمح بتسلل من تسميهم «الإرهابيين» عبر حدودها للعراق لمحاربة الجنود الأميركان في العراق. وتعتقد واشنطن أن سورية في ظل الرئيس بشار الأسد ضعيفة، وتأمل بتوجيه الضغط عليها بوقف دعمها لعدد من الفصائل وفي مقدمتها حزب الله في لبنان.
الاستقالة خوف الاستهداف
لقد تجاوز عدد الشهود الذين استدعاهم ميليس خمسمئة، فيما بلغ ملف قضية الحريري 37 ألف صفحة. ويعتقد ميليس أنه بات على وشك الكشف عن الحقيقة، لكن الوقت لم يحن بعد لإعلانها كي تصبح الدعوى جاهزة أمام المحاكم. وقد أبلغه كثيرون في لبنان ونيويورك أنه قام بعمل جيد، لكن ميليس وعلى إثر اغتيال رئيس تحرير «النهار» جبران تويني، شعر بأنه مستهدف أيضاً، لذلك عبر عن رغبته بالعودة إلى ألمانيا لمواصلة عمله السابق كمدع عام في مدينة برلين، وهي الوظيفة التي أحبها. ولذلك يشعر ميليس بخوف شديد منذ اغتيال تويني، الذي سبقه اغتيال سمير قصير وجورج حاوي. السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة جون بولتون المعروف بعدم محبته للألمان، حاول أن يقنع ميليس ليستمر في مهمته، ووصف ما قام به بأنه «إنجاز كبير». كما حاول عنان أن يثنيه عن التنحي، لكن فشل أيضاً. ويدرك ميليس تماماً أن الجيش السوري انسحب من لبنان، لكن المخابرات السورية مازالت لديها شبكة من العملاء، من هنا شعر أن حياته في خطر دائم. ويأتي انسحاب ميليس ليوقع الأمم المتحدة في مشكلة معقدة. فعلى رغم ان إبلاغه عنان قبل ثلاثة أشهر عزمه عدم تمديد مهمته، فإن أحدا في الأمم المتحدة لم يهتم بالبحث عن بديل حينها، وانما تم تمديد مهمته نصف عام بعد وقت قصير. ويعتقد ميليس أن التحقيقات تحتاج لمدة عام أو أكثر حتى تكتمل بصورة نهائية، خصوصاً ان القضية زادت تعقيداً بعد اغتيال تويني، إذ أعلن مجلس الأمن على الفور توسيع مهمة المحقق الدولي ودعاه كي يساعد لبنان في الكشف عن خلفية الاغتيالات السياسية التي تمت خلال الأشهر الماضية. وكان جبران تويني نائباً ورئيس تحرير صحيفة ليبرالية، وقام بعد اغتيال الحريري بدور محامي اللبنانيين، وراح ينتقد سوريا على «النهار». وهو الدور الذي قام به زميله سمير قصير الذي اغتيل في يونيو / حزيران الماضي، وبعد وقت قصير انفجرت عبوة ناسفة في سيارة المذيعة التلفزيونية مي شدياق أسفرت عن فقدان ساقها ويدها. وفي كلمة تأبينه لقصير، تساءل تويني: «ماذا ننتظر؟ هل ننتظر حتى يصفّونا واحداً بعد الآخر»؟ وقد تلقى جبران الكثير من التهديدات بالقتل، فانتقل إلى العيش مؤقتاً في باريس، ثم عاد قبل اغتياله بيوم واحد إلى لبنان، وخضع إلى حراسة من الشرطة، ولكن القتلة استخدموا مواد تزن 100 كغ، وضعت في سيارة، وطلب اللبنانيون من خبراء أوروبيين التحقيق لمعرفة مصدر المتفجرات.
مدقق الحسابات
الدور الذي لعبه ميليس في لبنان يشبه دور«مدقق الحسابات» في إحدى الشركات المرموقة للكشف عن مخالفات. وهو الدور الذي لم يشعر فيه ميليس بالسرور، فكل خطوة كان يقوم بها فريقه كانت تثير جدلاً سياسياً، وكل كلمة كان يقولها كانت تترجم كتصريح سياسي. ومنذ البداية كتب عليه أن يقف بين معسكر الموالين إلى سورية ومعسكر الحريري، وهكذا شعر أن ما يقوم به قد يلحق ضرراً بلبنان أكثر مما يفيده. بمعنى أوضح: أن إدانة سورية ستشعل النار بين اللبنانيين المختلفين فيما بينهم، وبين لبنان وسورية، وأبعد من ذلك أن ترزح سورية تحت عقوبات دولية يستغلها خصومها في واشنطن و«إسرائيل» والعراق لتحقيق أهدافهم السياسية والاستراتيجية. التقرير الذي قدمه ميليس إلى مجلس الأمن يعطي صورة عن الأوضاع السياسية في لبنان وسورية، ويعكس حقيقة مؤلمة، وهي أن هناك فئات سياسية تحرض على الاغتيالات السياسية إذا وجدت مصالحها في خطر. غير أن السؤال المهم في قضية اغتيال الحريري فيما إذا كان قد اغتيل بتحريض من دمشق، والتقرير لم يجب على ذلك. كلما طال أمد التحقيق كلما زادت القضية تعقيداً، وكلما زادت الدعوة للجوء إلى محكمة دولية للبت في القضية. والثابت بالنسبة إلى ميليس أنه قام بالكشف عن وجود تحالف يجمع سوريين ولبنانيين، الهدف منه ضمان بقاء النفوذ السوري في لبنان حتى بعد انسحاب 14 ألف جندي سوري، وعدد غير معروف من عملاء المخابرات السورية. وحين بدأ الحريري ينتقد هذا التحالف تحوّل إلى خطر كبير يتوجب القضاء عليه. جنرالات لبنان الموالون لسورية أمروا بأن يجرى إبلاغهم لوقت طويل تحت كل خطوة يقوم بها الحريري. وقد استفادوا على الأكثر من المراقبة الدائمة لمكالماته الهاتفية التي كانت ترصدها المخابرات العسكرية اللبنانية، فكان رئيس المخابرات العسكرية ريمون عازار يحصل كل يوم على محضر لمكالمات الحريري، إضافة إلى رئيس المخابرات جميل السيد، ورئيس المخابرات السورية في لبنان رستم غزالة. من هنا علم غزالة أن الحريري لا يعبأ لتحذيرات السوريين، وأنه غير مستعد للتراجع عن موقفه الناقد لنشاطاتهم في لبنان، وحين راح يقول كلاماً يزعجهم، خصوصاً كشفه وجود مسئولين لبنانيين يعملون في خدمة سورية. وفي الثالث من أغسطس / آب 2004 اتصل غزالة بالحريري مهدّداً وكان قد ظن أن الرئيس الأسد توصل مع الحريري إلى اتفاق «جنتلمان»، وأن الحريري نكثه بتصريحاته المزعجة. ولما سأله غزالة إذا ما كان متمسكاً باتفاق دمشق، أجابه الحريري بصوت متهدج: «بالطبع».
ضربة حسام حسام
محاضر التصنت على المكالمات الهاتفية التي جمعتها المخابرات اللبنانية تقع في 26 ألف صفحة، والمكالمات المهمة التي لها صلة باغتيال الحريري تمت في الفترة بين ديسمبر / كانون الأول 2004 ومارس / آذار ،2005 وفقاً لرأي لجنة التحقيق الدولية. وقام المحققون بفتح خزانة من حديد في منزل علي الحاج الموقوف حاليا والذي كان يشغل منصب المدير العام لقوى الأمن الداخلي والذي طلب منه غزالة أن يخفي فيها أقراص كمبيوتر تتضمن معلومات سرية. ويحقق رجال ميليس حاليا فيما إذا ساهم علي الحاج في تمويل نشاطات غير مشروعة للمخابرات اللبنانية، وبصورة خاصة إذا تم تمويل عملية اغتيال الحريري. ميليس متأكد من تحمل هذا التحالف من المسئولين اللبنانيين والسوريين مسئولية اغتيال الحريري، لكن ينبغي أولا معرفة هوية المسئول الرئيسي في هذه الشبكة ومن أمر بالاغتيال. في الأسبوع الماضي كتب على ميليس أن يشهد كيف تسير الأمور في منطقة الشرق الأوسط، ففي المساء ظهر أحد أبرز الشهود الذين يعتمد عليهم ميليس في دعم اتهامه لماهر الأسد (شقيق الرئيس السوري) وصهره آصف شوكت رئيس المخابرات العسكرية، اللذين اتهمهما في التقرير الأول بالتخطيط لاغتيال الحريري في عدة لقاءات بينهما في دمشق. وكان الشاهد على هذه اللقاءات السوري حسام طاهر حسام، الذي قال أمام كاميرا التلفزيون السوري أن لجنة التحقيق مارست ضغوطا عليه، كما عرضت عليه أسرة الحريري 13 مليون دولار ليقول معلومات من شأنها أن توقع بالنظام السوري.
بطل أم سكير؟
هذا التراجع التلفزيوني عن شهادة سابقة أدلى بها حسام كان ضربة مؤلمة لمحققي الأمم المتحدة حتى لو اتهم ميليس السوريين بالتضليل، والذي ذهب إلى القول ان السوريين اعتقوا والد الشاهد لزيادة الضغط عليه، وذلك قبل وقت قصير من ظهوره على التلفزيون. كما أن الشاهد الثاني زهير الصديق الذي ساعد ميليس في التوصل إلى عدد من الجنرالات السوريين لم تثبت صحة شهادته، ما جعل السوريين يصفون الصديق بالشاهد الذي تم شراء شهادته. كما لم يحصل ميليس على فرصة استجواب آصف شوكت في فيينا لكن من المتوقع أن يصر المحقق الجديد على ذلك. ميليس شخص مكروه في سورية، إذ وصفته وسائل إعلامها بالسكير والفاسد، وأن «أمه يهودية»، لكنه بطلٌ بالنسبة إلى لبنانيين، وفي برلين سيصبح مشكلة أمنية عند عودته. وقد أعدت السلطات الألمانية فرقة خاصة لتأمين حماية دائمة له، وقد بدأ العمل في تجهيز مقر عمله بالإجراءات الأمنية الكفيلة بدرء الخطر عنه.
العدد 1201 - الإثنين 19 ديسمبر 2005م الموافق 18 ذي القعدة 1426هـ