أن تعيش في جزيرة يعني أن تعيش في مهب الريح. هذه هي حال كل الجزر، وليست بحريننا بمنأى عن الرياح التي تدفع جموع الفقراء والبسطاء ضريبتها على الدوام. الرياح الحالية قادمة هذه المرة من العراق، المحتل أميركياً، والذي يرغب أبناؤه بفكاك بلدهم من أسر الاحتلال، ولكلّ في ذلك طريقته ومواقفه ورؤاه. والسياسة لا تحدّدها المثل العليا دائماً، وإنما هي مزيجٌ متداخلٌ من المصالح والحسابات والتوازنات. وهذا ما يجري أمامنا في العراق، ولكننا نصرّ في البحرين على قراءته بلغة الدين وحدها. في العراق، كانت الانتخابات بالنسبة للشيعة خشبة الخلاص للخروج من المأزق التاريخي الذي وجدوا أنفسهم فيه منذ أربعة قرون، ولذلك تمسّكوا بهذه الخشبة وعضّوا على الجراح وتحمّلوا حملات الاستهداف المباشر، فكان الخيار «السلمي» خياراً لا رجعة فيه. تجاربهم أوصلتهم إلى هذه القناعة، خصوصاً بعد ما قدّموه في ثورة العشرين ضد المحتل البريطاني، ولكن عند توزيع الغنائم خرجوا أو أُخرِجوا من بوابة الوطن. وانتهى بهم الأمر إلى المقابر الجماعية في عهد صدام. هناك درسٌ استوعبوه جيّداً... ولم يكونوا مستعدين لتكراره لأن الثمن لم يكن رخيصاً على الإطلاق. السُنة في تعاطيهم السياسي مع الوضع الجديد، وجدوا أنفسهم سيكرّرون خطأ الشيعة قبل خمسة وثمانين عاماً، ولكنهم كانوا أحسن حظاً، فتداركوا الوضع قبل فوات الفرصة. في نهاية العام ،2004 قاطعوا انتخابات الحكومة الانتقالية، وقبل ثلاثة أشهر قاطعوا الإستفتاء على الدستور، ولكنهم عادوا إلى المشاركة في الانتخابات النيابية الأسبوع الماضي، لأن السياسة تحتاج إلى «سياسة»، أما ما يقال فوق المنابر فلا يضمن وحده تحقيق الآمال. عاد السنّة إلى المشاركة على رغم كلّ ما طرحوه من شعارات طوال ثلاث سنوات: «ما بُني على باطل فهو باطل»، و«لا شرعية للانتخابات تحت الاحتلال»، فما يجري على الأرض يخالف تلك التمنيات. والسياسة إن لم تكن تعني الفوز بما تريد، فعلى الأقل يجب ألاّ تخسر كل شيء، فهذه ليست سياسة وإنما حرقٌ لكل الأوراق. ثم إن السياسة مصالح وحساباتٌ وتوازناتٌ، والخطاب الأيديولوجي لا ينفع دائماً في حفظ مصالح أطراف المجتمع وفئاته وطبقاته. بل ان هذا الخطاب إذا وصل حدّ التشنج، فإنه يقود إلى انتهاكات حقوق الآخرين ومصادرة حرياتهم وآرائهم، وينتهي إلى المذابح واستباحة الدماء، كما حدث في القتل العشوائي للمواطنين العراقيين، في الشارع والمطعم والمسجد وأمام بوابة المستشفى... كل ذلك تحت عنوان فوضوي عريض: «المتعاونين مع الاحتلال»، العراقيون اليوم يتطلّعون إلى سياسة بلدهم بأنفسهم، وهذا غاية الطموح لأي شعب حر. كل الأطراف «لعبت سياسة»، وشاركت في الانتخابات، على رغم «وجود الاحتلال». وما يهمنا اليوم من العراق كمسلمين أن يعيش حراً مستقلاً، منسجماً مع الدائرتين العربية والاسلامية. وما نتمناه كعرب أن يخرج الشعب العراقي الشقيق من محنة الاحتلال الاجنبي كما خرج من محنة الطغيان والاستبداد الداخلي. وما يهمنا كبحرينيين ألاّ يتم استيراد أي حطب لاستخدامه في المحرقة الطائفية، فما لدينا من مشكلات يكفينا، والأجدر بنا أن نوفّر كل جهودنا لإيجاد الحلول، بدل التلهّي باستيراد «مشكلات الآخرين». ونحن اليوم لا نتكلّم عن دور الحكومة، وإنما عن دورنا كشعب، أفراداً وجمعيات ومؤسسات مجتمع مدني، تغلبنا الرغبة أحياناً في التباهي بتقليد الآخرين، وهذه من أخلاق أهل الجزر الصغيرة. على الجانب السنّي، حاول البعض استيراد «هيئة علماء المسلمين»، وعلى الجانب الشيعي رفع البعض فوق رأسه شعار «الإئتلاف الوفاقي الموحّد»، كأننا أمام عرض هزلي، لا يتم استيراد التجارب وحدها، بل حتّى الشعارات والتسميات، وهي تجارب غير مشرقة دائماً على كل حال. اللغة العربية الغنية بالتسميات والتعبيرات، لم نعثر فيها نحن البحرينيين ما هو أجمل من لفظ «هيئة العلماء»، و«الائتلاف الموحّد». هل هو علامةٌ على جدب في المخيلة، أم عجزٌ عن الابداع؟ أم أنه حب التقليد والمحاكاة، وغلبة أخلاق الجزر مرة أخرى؟ التقليد في كثير من الأحيان نقيصةٌ وليست فخراً، عيباً وليس ميزة، فدعوا العراق... وانتبهوا لهذه السفينة الصغيرة قبل أن تغرق بمماحكاتكم الطائفية... وكفاكم من التقليد
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1201 - الإثنين 19 ديسمبر 2005م الموافق 18 ذي القعدة 1426هـ