الإدارة الأميركية في حال تخبط سياسي وقرارها الأخير ضائع بين تيار يريد إعادة النظر في تلك الاستراتيجية الهجومية التي بدأتها واشنطن بعد وصول الحزب الجمهوري إلى السلطة قبل 5 سنوات وتيار آخر يتمسك بالمنهج العام ويرفض تعديله خوفاً من الهزيمة الشاملة. هذا الإرباك يمكن قراءة تلاوينه السياسية على أكثر من صعيد. وهناك اختلافات يمكن ملاحظاتها من خلال التصريحات الرسمية أو التسريبات الصحافية. كذلك يمكن متابعة الأمر نفسه على مختلف مؤسسات القرار. فالآراء متشعبة وأحياناً تذهب في دروب مختلفة ولكنها تنتهي عند سؤال مشترك: هل نعترف بالهزيمة أم نكابر في سياستنا؟ حتى الآن لا جواب نهائياً. بل هناك أجوبة متناقضة تتراوح بين الإصرار على سياسة «الانتصار الشامل» وبين القبول بالحد الأدنى من الخسائر التي تكبدتها الإدارة خلال السنوات الخمس الماضية. إلا أن الجامع المشترك بين تلك الأجوبة يتركز على المخاوف المفترضة في حال قررت الإدارة سحب قواتها من العراق. فالمحاذير في هذا السياق كثيرة وهي تتلخص بسؤال: ماذا فعلنا حتى الآن... ولمن نترك القيادة في حال قررنا الرحيل؟ هذا التساؤل يلعب دوره في الضغط على واشنطن باتجاهين متعارضين: الأول يدفع نحو الانسحاب وترك فراغات أمنية يمكن مراقبتها في إطار سياسة تجميع القوات وإعادة نشر بعض قطاعاتها في قواعد عسكرية داخل العراق أو في دول الجوار. الثاني يدفع نحو رفض الانسحاب قبل تحقيق «الانتصار الشامل». وهذا يعني المزيد من التورط في حروب جزئية وإقليمية قد تفتح الباب على احتمالات غير محسوبة في ميزان القوى العسكري. الانسحاب المنظم أو البقاء الفوضوي نجد صداه في تلك الاعترافات التي ذكرها أخيراً الرئيس جورج بوش في تصريحاته. كذلك نجد ما يعارضها في قرار الكونغرس الأخير الذي رفض وضع جدول زمني للانسحاب مفضلاً إبقاء الخيارات مفتوحة. وبين الانسحاب المنظم والبقاء الفوضوي تحاول الإدارة الأميركية التوصل إلى «حل وسط» يعطي إشارات تطمين للداخل وللقوى الإقليمية المجاورة للعراق، وكذلك لا يعطي فرصة للدول المعنية بتداعيات الاحتلال بتنظيم صفوفها والبدء في شن هجوم معاكس. «الحل الوسط» بدأت الإدارة الأميركية تتقدم إليه منذ فترة. وهذا ما يمكن ملاحظته من أمرين: الأول الضغط باتجاه التهدئة على الجبهة اللبنانية السورية بهدف تخفيف التوتر في لبنان والتقليل من القلق في سورية (القرار 1644 مثلاً). والأمر الثاني الضغط باتجاه رفع درجة التوتر على الجبهة الخليجية الإيرانية وإثارة حالات من المخاوف المبالغ فيها من وجود خطر نووي مقبل على المنطقة من طهران. هناك إذاً سياسة تخفيف الضغط من جهة ورفع درجة القلق من جهة أخرى. وهذا يعني أن واشنطن لم تقرر بعد إعادة النظر في استراتيجيتها العامة بل يبدو أنها قررت إعادة النظر في برنامج الأولويات. فالأولوية لمنطقة الخليج ومنها يمكن الانطلاق لرسم خريطة سياسية في التحالفات الدولية والإقليمية. الولايات المتحدة الآن بصدد مراجعة أولويات سياستها الأمنية وهذا يتطلب توسيع رقعة القوات الأجنبية من خلال الاستنجاد بمظلة الحلف الأطلسي (الناتو) تحت غطاء دولي يأخذ شرعيته من قرارات مجلس الأمن التي صدرت تباعاً منذ تسعينات القرن الماضي وهي في معظمها تتعلق بالشأن العراقي الخليجي. الآن خرج العراق من المعادلة الإقليمية وحلت مكانه إيران في الملف الأمني، وبالتالي فإن هذا الأمر يتطلب سلسلة خطوات إضافية تعطي شرعية لسياسة دولية بتغطية من مجلس الأمن وتقودها ميدانياً الولايات المتحدة. القرار 1644 الذي صدر حديثاً بشأن متابعة لجنة التحقيق أعمالها في لبنان ليس بعيداً عن هذه الأجواء والترتيبات الجديدة المتصلة بالأولويات الأمنية. فالتهدئة لا تعني بالضرورة أن القطار الأميركي توقف عن هجومه وإنما قد تعني تخفيف السرعة في جبهة وزيادتها في جبهة أخرى. ولعل اختلاف الأولويات يساعد على توضيح صورة الموقف ويعطي فكرة عن تلك الارتباكات الأميركية والتخبط الذي تمر فيه إدارة بوش
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1201 - الإثنين 19 ديسمبر 2005م الموافق 18 ذي القعدة 1426هـ