العدد 1201 - الإثنين 19 ديسمبر 2005م الموافق 18 ذي القعدة 1426هـ

يوسف الصايغ ووسامة المكان

«كل نتاج عظيم، هو أزمة وليس حلاً». يرحل يوسف الصايغ في ظل تراكم غُصص، يرحل رافعا سبابته باتجاه جغرافية ممعنة في فرْم لحم أبنائها، وتسمينهم لجحيم السيارات المفخخة، وعهر الفهم الغبي والمغلوط لسماحة الدين والعقيدة. يرحل يوسف الصايغ، فيما النص في الطرف الآخر من النيّة والتمنّي، لم يستوِ على دهشته اللائقة بقامة في حجمه. يرحل الصايغ في ظل «هندسة» أوطان برسم «الخراب» والتقسيم، وسياسيين برسم البيع بالجملة، وسياسات لها أفق تبريراتها الرخيصة، ومحاولات الخلط بين التوجه الى القِبلة ذكرا، وبين التوجه اليها التماسا وخنوعا، وبين الإيعاز لمبررات الحضور بأن تكون أكثر صفاقة وهامشية، وبين أن تضع سبابتها في عين المحتل، وبين أن تنجز نص تفوّق حضورها على الآلة والمنجزرة وقنابل تحافظ على وسامة المكان، فيما تمعن في تشويه جمال السيرة والإنسان. رحل الصايغ متخما بـ «غُصصه»... غُصصنا... غُصص عراق متفوّق في انتاج موت لا مبرر له... انتاج موت يكاد يتفوق على موهبة النار في شراهتها. يرحل لاعنا هذه الجغرافيات المتآكلة... الجغرافيات التي تتمترس وراء تبريرات تخليص الوطن من آفة الخارج، فيما آفات الداخل تكاد تحجب شمس الأفق، هل كان الصايغ واحدا من أزمات هذه الأمة؟ وهل كان الحل في رحيله الاستثنائي الذي هو بحاجة الى إعادة فحص ونظر؟ يرحل، فيما بقاء وتكرّس الوحشي والبدائي في حياتنا يكاد يكون اللازمة الطبيعية والضرورية لأمة حُرّضتْ على واحد من الجمالات الأولى والضرورية لاستمرار النوع البشري: القراءة... القراءة التي باتت محوا أكيدا وضروريا في ظل فهم لا يملك صفة وتبرير وجوده المشروط بقراءة اليمين المتطرف في البيت الأبيض. يوسف الصايغ: ما الذي دفعك الى الحياة وسط أمة لا تتقن إلا حفر القبور والنعي؟

الإنسان السابق وشيك مفتوح على خراب الوطن

قفزت الى ذهنه فكرة يظنها غير مكلفة، ستتيح له عربدة من «الدرجة الأولى» بعد تاريخ طويل من ضيق ذات اليد: المتاجرة بالوطن وآلامه لا يحتاجان الى «حذاء مال» عدا عن «رأس مال»، البهلول الساذج، «ثقيل الدم»، جرّب كل أنواع الدجل في التاريخ فلم يقف على طريقة تخرجه من عوزه. في المسرح كان أشبه بحفّار قبور، وفي المواويل كان أشبه بـ «معدّدة» في الهزيع الأخير من الصوت. وحين يسير بين الناس بملامحه ونفَسِه الكريه، كان محط أنظار المارّة لفرط قبحه الداخلي والخارجي، كان مناضلا سابقا، وحين تُوصم بتلك الصفة، فذلك يعني أنك عقدت من الصفقات ما يربو على ذكر الله والصلاة على النبي، كان إنسانا سابقا، قبل أن تلوّح له بعض الصحف الصفراء والسوداء بأعمدة خرابها وانهياره. لم يتردد لحظة في أن يكون طرفا في مزادات بالجملة. (لمن يدفع أكثر) مع استعداد تام لإثارة حفيظة التاريخ والجغرافية، حفيظة الأرض والسماء، حفيظة قيم لا صلة له بها، مع الاستعداد التام للتوصيل المجاني، ما الذي يمكن لنخّاس مثله أن يخسره، طالما أنه طرف في معادلات مهزوزة، وطالما أن الشيكات المدفوعة مفتوحة على وطن بأسره، وطن بكل ضحاياه، ومعذبيه، ومهمّشيه. المناضل/الإنسان السابق اكتشف أن أفضل طريقة للخروج من مأزق العوز والفاقة، هي أن يمارس ويمرر أكبر قدر من الكذب، والافتراء، والتلصّص، والتفرّغ لكتابة التقارير و«رفعها»، فيما تسهم تلك التقارير في إعادته الى سيرته الأولى، إعادته الى حيث ينتمي: «الهبوط» به الى «الدرك الأسفل» من العري، مخبر تحت مسمّى كاتب عمود، على رغم أن العمود له قامة وامتداد، فيما هو يتوغل سقوطا كلما اهتدى الى طرق مبتكرة باختزال الوطن في شيك مفتوح على الخراب. تماما كما يفعل «الديّانة» الذين يسقطون التزاماتهم للجهات التي تطالبهم، يقسّط أعمدته «ترقيما يبعث على القرف، في محاولة منه لتذكيرنا بحرفته السابقة، حرفة الأدوار، وترقيم التقارير، والمشاهد، ورخاوة النص... .,,1,2,3 الخ ، في مسلسل رتيب وساذج وخاو، تماما كما هو الحال مع بعض المسلسلات المكسيكية التي تصل حلقاتها الى الستمئة حلقة، فيما القيمة المرتجاة من تلك «المئويات» تعادل صفرا. الإنسان السابق يعود الى سيرته الحقيقية، أن يكون عبدا تابعا ينعق بصوت يحسبه تجاوز صباح فخري، ووديع الصافي، فيما هو صوت قبيح لمؤذن بنغالي مهزوز وركيك في مخارج حروفه، يدفع كثيرين الى النفور من صلاة الفجر، بقي القول: ان كثيرا من «الأعمدة» هي مشروعات مفتوحة على «انهيارات» متوقعة على رؤوس أصحابها، في حال كانت لهم رؤوس،

الذاكرات المصطنعة

بعضهم يتعامل مع الذاكرة كما يتعامل مع برميل، يعمد الى ملئه أو تفريغه حسبما يقتضي الموقف. ليس في الأمر براءة، على الأقل عربيا، بعض القنوات التلفزيونية حوّلت بعض «المفلسيونية» الى «مليونيرية»، وحوّلت بعض المغمورين في حاراتهم الى نجوم من الدرجة الأولى، وبعض المنبوذين لخلاعتهم وبؤسهم الأخلاقي والوجودي الى شيوخ طريقة صوفية، ما لم يتم التعامل مع الذاكرة بأمانة ­ وان شابها حال من الوسواس ­ فمن الأفضل لتلك الذاكرة أن تخرس، أن تخرس في ذهابها الممعن في النسيان. بعض الصحف عندنا تسعى الى استدراج لا يخلو من تقصّد وخبث. بعضهم تاريخه طويل وعريض في الشك والمغالطات، ومطعون أساسا من حيث أهليته فتقديم شهادات نصيبها من الحقيقة والصدقية شبيه بحقيقة وصدقية لبن العصفور، والنوق العصافير، وتبليط البحر على حد تعبير الأشقاء الأثيرين على النفس والروح. شهادات أقل ما يقال عنها إنها ضالعة في الزور، ولو في الأرض من يقيم حكم العدل، لفرّغ شعبه في إجازة مفتوحة لإقامة الحد على أمثالهم. إحدى الشهادات صدرت من شخص لا ذاكرة تاريخية له. كيف لامرئ أن يقدّم شهادة، فيما هو منسلخ عن ذاكرة وجوده وحضوره؟ كيف لشخص أن يُقدّم للناس باعتباره شاهدا على حقبة، فيما هو رهين لأقراص ومنبهات ومحفزات لا تجدي معه نفعا؟ كيف لشخص أن يقدّم شهادة فيما هو ضالع في الصميم من الغياب والغيبوبة والخرافة والسحر الأسود؟ كيف لشخص أن يقدّم شهادة عن فصيل حركي في تاريخ الأمة، فصيل يمثل جانبا من دينها وتاريخها ومواجهاتها، فيما هو مصنّف كجنس ثالث، كيف لشخص أن يقدّم شهادة فيما لم يره، مادامت ذاكرته مصطنعة؟

فعل الاختطاف، والحبل السريّ

يشير أدونيس في كتابه «النظام والكلام» الى أن «الثقافة لا تعود حركة النظام المتماثلة، وإنما تصبح حركة مجتمع متعددة، متنوعة» في محاولة منه لتكريس نظر عميق الى الفعل الذي من المحتم أن تكون الثقافة في عمقه وحركته. ما أغفله أدونيس، وكثير من المثقفين العرب الكبار هو أن الأمن ­ تصريحا لا تلميحا ­ كان غائبا في الكثير من عمق أطروحاتهم، ليس بمعناه المباشر السمج والساذج، ولكن بارتباطه العميق مع بنية ذهنية/تسلطية في واقع عربي مفتوح على الفضائح والانتهاكات والتجاوزات. حركة المجتمع المتعددة والمتنوعة لا تتحقق في ظل أنظمة موهبتها الكبرى «الفرز» والتمييز، لأن المجتمع في نهاية المطاف محكوم ومحاصر بحزمة اشتراطات تهبط مع الأنظمة، سواء بمظلات أو دبابات. ومثل ذلك التعدد والتنوّع في ظل واقع لا يحتاج الى القسَم بأغلظ الأيْمان، هما ضرب من الوهم المرَضي، وتخرّص لا يحتاجان إلى أيْمان لإثباته وإقراره. حادث اختطاف مواطن في بلد متعدد ومتنوع الثقافات والمذاهب، وفي الوقت نفسه عريق في تقاليده الأمنية، يأخذنا الى الوهم المرضي والتخرّص نفسيهما، اللذين تصبح معهما الأيْمان الغليظة ضربا من الإسراف على النفس، عدا عن الإسراف في الهروب، وتجنّب مواجهة حقيقة ما نحن ماضون اليه. تعدّد الأجهزة الأمنية يضع المواطن في خانة «الطاسة»... طاسة في معبد هندوسي أو بوذي، لا أحد ولا طاسة يمكن تمييزها في ظل ذلك التعدّد. فعل الاختطاف، تكريس لذهنية وتوجه الإكراه، بمعنى آخر، تكريس لاختطاف الخيارات، ما يكشف عن اختطاف حال التعدّد والتنوّع. فعل الاختطاف بحد ذاته محاولة لإيصال رسالة مبتسرة أنّ: التعدّد والتنوّع أمران يظلان مرهونين بالسلطة التي لن تتجرأ على المجازفة بالتصريح بإطلاق فضاء تحركهما. فيما هي تحتفظ لنفسها بحق ذلك التعدّد والتنوّع على مستوى أجهزتها الأمنية، اختطاف مواطن من منزله ومحاولة الاعتداء عليه يكشف عن حال من الصراع بين الأجهزة نفسها على الاستحواذ على فضاء التعدّد والتنوّع المشار اليه، وكل جهاز على استعداد ­ وبشهية مريبة ­ لنفي التهمة عن نفسه، فيما لا يغيّر ذلك النفي من واقع الأمر شيئا. في خلاصة: فعل الاختطاف، تأكيد على أن النظام الأمني أقرب الى المواطن من حبله السري،

فاشيّة الأعمدة

«إذا صح أن توصف لغة ما بالفاشية، فإن هذا الوصف هو أدق ما ينطبق على اللغة الثقافية العربية السائدة». أمن الدولة ضالع في ثقافة عدد لا يحصى من أنصاف الصحافيين والكتّاب، هنا في المملكة، ويمكننا أن نؤكد أن تلك الثقافة لا تبرر الممارسة لذلك الجهاز فقط، بل تعيب عليه تراخيه وسماحته ­ فيما ترى ­ أحيانا ، وهو تراخ وسماحة يتضحان حين يشعر عدد من أولئك الكتّاب أن مصالحهم ومنافعهم قد ضربت في الصميم، ولو بفعل إطلاق اليسير من مشروعات الإصلاح، وخصوصا أن الأجهزة الأمنية يراد لها أن تؤجل بشاعاتها وتجاوزاتها الى حين، كاتب من تلك النوعية، طلع علينا قبل أيام في مقال ينضح عفونة، في مغالطة فاضحة، أصر فيه على أن أحوال البلاد والعباد في ظل قانون أمن الدولة المقبور، كانت بألف خير، وأن المواطنين متساوون أمام ذلك القانون، بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية والفكرية. مثل ذلك الكاتب يكرّس لحال من الفاشية التي لا تحتاج السلطة فيها الى تعذيبه كي يؤمن بمركزيتها في العالم الذي تتحرك فيه وتهيمن عليه، فيما هو يرتكب «انبطاحه» العلني الذي يكاد يذكرنا بالمواخير. لدينا بعض الأعمدة في مضامينها، لا تقل فاشية عن أبشع المحارق في التاريخ، ولدينا كتّاب «جنرالات» لا يقلّون فاشية عن سيئ الذكر أدولف هتلر.

الموت العريق

«الشائع في حياتنا الثقافية، أن مهمة المثقف هي في أن يطرح حلولا للخروج من أزمة ما، أو من الأزمة عموما، وهذا تصور أو مطلب خ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً