بدأت سلسلة الاعترافات بارتكاب الأخطاء ترد تباعاً من المسئولين الأميركيين. فالرئيس جورج بوش اعترف في خطاباته الأخيرة بارتكاب أخطاء في تقدير الموقف والقراءة السياسية الدولية والإقليمية لقرار الحرب على العراق. واتجه بوش في خطابه إلى تحميل الاستخبارات مسئولية جره إلى اتخاذ قرار الحرب. المشكلة برأيه تتحصر في تسريب معلومات خاطئة أدت إلى اتخاذ قرار خاطئ. كذلك اعترف وزير الخارجية السابق كولن باول بارتكاب أخطاء. وهذه ليست المرة الأولى التي يعترف بحصول هذا الأمر، ولكنه للمرة الأولى يتهم «جناح الصقور» في «البيت الأبيض» بالتحريض على الحرب وتزيين نتائجها الإيجابية للرئيس الأميركي. باول أوضح من بوش. فالرئيس يعتبر أن هناك مشكلة في أجهزة الاستخبارات تعتمد على مصادر تعطي معلومات غير دقيقة. الوزير السابق يرى أن المشكلة سياسية وليست معلوماتية. فالقرار في جوهره اعتمد على أسس سياسية (استراتيجية) واستخدم معلومات المخابرات واسطة للإعلان عن قرار الحرب. باول ذهب أكثر في اعترافاته. فهو أشار إلى ما يشبه «الانقلاب الأبيض» في تراتبية السلطة في واشنطن. واتهم «الصقور»، وتحديداً الثنائي رامسفيلد تشيني في تجاوزه واللعب بالمعلومات لدفع الإدارة نحو زاوية حادة لا تستطيع الخروج من حلقتها سوى باللجوء إلى كسر المعادلة والتوجه نحو افتعال الحروب لتبرير الإنفاق على التسلح وتغطية التجاوزات الإدارية داخل الولايات المتحدة. الاعترافات إذاً، بدأت تصدر تباعاً عن الجهات المسئولة سابقاً وحالياً، وهي كانت ولاتزال معنية بالتداعيات الكارثية التي أنتجتها سياسات الحروب الأميركية على دول العالم الإسلامي. ويتوقع في هذا السياق أن ترتفع الأصوات ضد تلك السياسات من جهات مختلفة، وخصوصاً أنها طاولت أمن المواطن الداخلي وحقوقه وخصوصياته (التنصت على المخابرات الهاتفية ومراقبة الانترنت مثلاً). كرة النار بدأت تكبر وتمتد، وهي تحتاج إلى مزيد من الوقت لتنكشف كل تلك الأوراق السرية التي تحكمت باتخاذ قرار المغامرات العسكرية من دون أخذ حسابات المصالح الدولية في الاعتبار، وعدم احترام شرعية قرارات مجلس الأمن، وتخطي كل الاعتبارات التي تفرضها مسألة توازن المصالح بين الدول الكبرى. إلا أن الاعترافات لاتزال حتى الآن متواضعة قياساً بالكوارث الميدانية التي أنتجتها. كذلك لاتزال محصورة في دائرة ضيقة، وتميل إلى تبادل الاتهامات وتوزيعها على المسئولين. فالاعتراف مهم، ولكنه لم يرتق إلى مستوى النقد الذاتي الذي يملي على صاحب الخطأ التراجع عنه أو إعادة قراءة الملف من زاوية مختلفة. الاعتراف ليس نقداً للسياسة دائماً، وإنما يكون أحياناً محاولة لشرح ملابسات موقف وتبريره حتى لا تنكشف الأوراق الحقيقية. هناك جانب خفي في الموضوع وهو الذي فرض على إدارة تقودها «كتلة شريرة» اتخاذ خطوات أدت إلى زعزعة استقرار منطقة «الشرق الأوسط» ودفعت دوله إلى حال من الاضطراب الداخلي والتنازع الحدودي وصولاً إلى تحمل أعباء مالية إضافية لمواجهة تلك الخلخلة التي حصلت في أكثر من نطاق. حتى الآن، لم تنكشف كل الأوراق. فالإدارة الأميركية تبذل جهدها للتعتيم على الحقائق وتحميل مسئولية القرارات لأجهزة المعلومات والمخابرات، بينما كل الدلائل تشير إلى توجه استراتيجي عام قادته مجوعة انقلابية من داخل «البيت الأبيض». وهذا ما عناه باول حين تحدث عن تجاوزات «جناح الصقور» وتخطي صلاحياته في السياسة والاستخبارات. قصة الحروب الأميركية طويلة، وفصولها لا تنتهي... من كوريا وفيتنام إلى أفغانستان والعراق. ويتوقع الا تنتهي حتى لو خرجت قوات الاحتلال من بلاد الرافدين. فقرارات الحروب في الولايات المتحدة ليست أخطاء في المعلومات والسياسة، وإنما هي استراتيجية تتصل في جوهرها ببنية الاقتصاد وهياكله وتوازن قطاعاته ودور صناعة الأسلحة بالتحالف مع شركات الطاقة في قيادة الدولة وجرجرة إداراتها من حرب إلى أخرى. وهذا لم يقله بوش ولا باول.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1200 - الأحد 18 ديسمبر 2005م الموافق 17 ذي القعدة 1426هـ