خرجت ورشة عمل إصلاح التعليم والتدريب والتي عقدت في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني، بحضور ما يقارب من 200 شخصية من مختلف مواقع العمل في المملكة، من وزراء وأساتذة ونيابيين وشوريين ورجال أعمال وفكر وإعلاميين، إلى جانب معلمين وأولياء أمور وطلبة من مختلف المراحل. خرجت الورشة وللأسف بتوصيات مثيرة للجدل وغريبة في الطرح، ومع ذلك تم اعتمادها أمام هذا الجمع الغفير من دون النظر إلى أبعاد التوصيات، إذ دعوا إلى تشجيع الاستثمار في التعليم وإلغاء البحرنة في توظيف المدرسين في الهيئات التعليمية، واعتماد الكفاءة بدلاً من الأقدمية، كما دعوا إلى إشراك القطاع الخاص في العملية التعليمية. وأكد المشاركون في توصياتهم ضرورة إصدار قانون مستقل للتعليم العالي، وفصل التعليم العالي عن وزارة التربية والتعليم، كما طالبوا بإنشاء مجلس أعلى للتعليم وآخر للتدريب على غرار مجلس التنمية الاقتصادية، مشددين على ضرورة إعادة النظر في المناهج الدراسية وتحويلها من المعارف إلى المهارات التطبيقية. وطالب المشاركون بضرورة تغيير المناخ الثقافي الذي يتخرج منه الطالب، والعمل على ترسيخ مفاهيم جديدة للعمل والتعليم والتدريب بما يؤدي إلى احترام العمل كقيمة والتعليم كرسالة، كما دعوا إلى إعادة النظر في الشهادات التي ترد من الخارج وطريقة تسجيل الطلبة في جامعة البحرين، إضافة إلى تغيير نظام الدرجات في الجامعة. كما أوصى المشاركون بالعمل على تغيير نظرة المجتمع للتعليم الفني والصناعي، وإعطائه الأولوية في السياسات التعليمية، مع التقليل من الاهتمام بالتعليم الجامعي في بعده النظري وصوغ العملية التعليمية في إطارها الحرفي والفني وفق ما يرتضيه القطاع الخاص. كانت تلك أبرز التوصيات التي جاءت بها الورشة، وأدعوكم إلى وقفة تحليلية لبعض التوصيات التي أجدها مثيرة للجدل، وتحتاج إلى إعادة نظر من قبل المسئولين، حتى لا نجد أنفسنا «نريد أن نكحل مجالي التعليم والتدريب فنعميهما»، وأتصور أنه غاب عن بال هؤلاء ماذا سيحدث لو تم تفعيل توصياتهم على أرض الواقع، هل يا ترى سيكون حال التعليم والتدريب أفضل من حالهما في الوقت الراهن، لاسيما بعد الاطلاع على تقارير كل من وزارة التربية والتعليم وجامعة البحرين ووزارة العمل، وبعد أن تم كشف القناع عن الكثير من الحقائق المخيفة والتي ظلت تطارد النظام التعليمي لسنوات كثيرة، وبعد أن تم وضع اليد على الألم والجروح نفسها، نأمل أن تلتئم حينها لا أن تزداد غوراً. لكن المتأمل في بعض التوصيات التي تمخضت من الورشة يرى أن حال التعليم والتدريب سيتحول من سيء إلى أسوأ، وبالتالي لايزال التخبط واضحاً في هذين المجالين، على رغم التشخيص الدقيق لمكامن الخلل في منظومتي التعليم والتدريب.
توطين التعليم لا «أجنبته»
أبرز ما جاء في التوصيات تلك التي تتكلم عن إلغاء البحرنة في توظيف المدرسين في الهيئات التعليمية واعتماد الكفاءة بدلاً من الأقدمية، أقولها وقلبي يتفطر ألماً، بأننا إذا أردنا إصلاح التعليم فعلاً من دون رفع شعارات براقة لا أصل لها على أرض الواقع، لابد لنا أن نقاوم بكل ما أوتينا من قوة من إدخال عناصر غريبة أو أجنبية على نظامنا التعليمي. علينا أن نوطّن التعليم حتى في التخصّصات غير المتوافرة في الوقت الراهن. علينا أن نتحدى الظروف ونعمل على استثمار الكوادر البحرينية في أسرع وقت ممكن، فمشكلة البطالة تكاد أن تنفجر في أية لحظة، وهذا ما كشفته دراسة «ماكينزي»، ومع ذلك تجدنا نغالط أنفسنا ونقدم فرص العمل لغير أبنائنا. لابد لنا من إحداث ثورة تتعلق بإزالة أزمة الثقة التي مازلنا نعيشها إزاء الكوادر الوطنية المدربة، والتي تتعطل وتقف في طوابير الانتظار سنوات كثيرة تنتظر بارقة أمل هنا أو هناك، على رغم الحماس والرغبة الصادقة لديها. نأتي نحن بنظام هنا أو نظام هناك، نحاول أن ندوس على أحلامهم تارة وعلى حقهم في التوظيف المكفول دستورياً تارة أخرى، من أجل المساهمة في خدمة أبناء هذا الوطن الطيب. كان على الورشة أن تخرج بتوصيات تؤكّد أهمية البحرنة والوقوف أمام أية توصية تحول دون ذلك، ومع ذلك مرّرت هذه التوصية على الحضور وكأن على رؤوسهم الطير، فكيف ندّعي أننا نبحث عن الإصلاح، ونبحث عن حلول من خارج الكوادر الوطنية؟ إذا كنا نعترف بوجود تقصير في كوادرنا الوطنية فلابد أن نضع أيدينا على مكامن الخلل ونحاول إصلاحها، ولنتذكر دائماً أن «آخر الدواء الكي»، لا أن نأتي بالكي أولاً. وإذا كنا نرى أن المدرس غير البحريني أكفأ من البحريني، خريج جامعة البحرين فرضاً، فعلينا أن نبحث عن الأسباب. فإذا كان السبب التدريب والبرنامج الذي خضع له الطالب في جامعة البحرين لوجود خلل ما، أو لوحظ أن البرنامج نفسه غير مجز ، فعلينا أولاً، الاعتراف بذلك من خلال التقييم، وإصلاحه ثانياً حتى لا يتحمل وزر ذلك الطالب الذي تجشم عناء الدراسة ليكون جندياً في النظام التعليمي. وإذا كان كادر المدرسين في الجامعة لا يستطيع تخريج مدرسين أكفاء فعلينا إعادة النظر في الهيئة التعليمية» وإذا كانت هناك نواقص محدّدة تتعلق بشخصية البحريني علينا أن نضع معايير واشتراطات محدّدة فيمن يرغب في العمل مدرساً، لا أن نفتح باب التسجيل والقبول في الجامعة على مصراعيه، وتقبل عليها أعداد كبيرة، تصدم بعدها بالواقع عند التخرج والبحث عن العمل. دعونا نتكلم بصراحة، لنرى ماذا تقدم الجامعات الأردنية والمصرية مثلاً، حتى نقول عن المدرس الأردني أو المصري إنه ذو كفاءة عالية بينما البحريني ليس كذلك. لنرى ماذا يقدمون من برامج في جامعاتهم لإعداد المعلمين، ونعمل ونقدم مثل ما يقدمون. من جانب آخر فإن المدرس البحريني هو الأقدر على التعامل مع الطالب البحريني، من حيث مجموعة من الاعتبارات بدءًا باللغة واللهجة المستخدمة وانتهاء بالإخلاص في المهنة، مهما تكن الكفاءة، فالمدرس الأجنبي لا يخلص مثلما يخلص المدرس البحريني.
الهيئة الوطنية للعاطلين
لا يمكن نسيان الجهود الكبيرة التي قامت بها الهيئة الوطنية لدعم المدرسين العاطلين عن العمل طوال السنوات الماضية، واستطاعت أن تحقق عدة انجازات وتقدّم مشروعاً يحتوي على الكثير من الحلول والاقتراحات في سبيل التقليل من نسبة التعطل في الوظائف التربوية. اللجنة لعبت دوراً كبيراً في توظيف الكثير من الخريجات، وإعادة تأهيل البعض الآخر في تخصصات أخرى، وكانت تصر على بحرنة الوظائف التربوية، وأهمية اعتماد مبدأ الكفاءة إلى جانب الأقدمية حتى لا يفقد الخريج حماسه ورغبته من خلال الانتظار والتعطل. ومع ذلك نرى أن هناك محاولات للنيل من تلك الهيئة ومحاولة إقصاء دورها، بل زاد الأمر عن حده عندما أبلغت الهيئة حديثاً بشكل غير رسمي بقرار وزيرة التنمية بشأن عدم شرعية الهيئة، وبالتالي، المطلوب منها توقيف نشاطاتها، على رغم أن الهيئة عبارة عن تجمع يحوي الكثير من المؤسسات الموجودة فعلاً والمشهرة كـ «جمعية المعلمين البحرينية» و«جمعية الوفاق الوطني الإسلامية» و«جمعية المستقبل النسائية» و«جمعية حقوق الإنسان» و«جمعية الإخاء» و«جمعية الحريات العامة»، ألم أقل لكم إن هذه التوصية من أسهل التوصيات، وبالتالي من السهولة بمكان تطبيقها؟ كما أنها ستجد طريقها إلى التنفيذ في أسرع وقت ممكن، على رغم أن الشعار الذي ترفعه وزارة التربية والتعليم في الوقت الراهن هو تجويد التعليم وتطويره، معتقدة بأن الجودة والتطوير لن يتأتيا إلاّ من خلال اعتماد «عدم بحرنة الوظائف التربوية»، معللةً موقفها بالبحث عن الكفاءة. وأعتقد أن أولياء الأمور الذين حضروا الورشة لم يدركوا خطورة هذه التوصية، وبالتالي مُرّرت في محاولة البحث عن الكنز المفقود، إذ لم يعتقدوا بأن التعليم سيتجه إلى الدمار إذا ما نفذت هذه التوصية، إذ ستتأثر حتى لغة أطفالهم، نظراً إلى اختلاف اللهجات. كما أن عملية نقل المفاهيم والحقائق لن تكون ميسرة، علاوة على اكتساب القيم والاتجاهات التي ربما لا تكون متوافقة مع بيئتنا. وسأنقل هنا قصة واقعية سمعتها من أحد المدرسين تتناول جزءًا من المأساة حين يتم تنفيذ تلك التوصية إلى جانب الكثير من السلبيات التي ستحصل. القصة مفادها أن أحد المدرسين العرب والمشهود له بالكفاءة والإخلاص بدليل حرصه على الحضور في المدرسة من الساعة السادسة صباحاً، إذ يشهد له بأنه أول القادمين وآخر الخارجين من المدرسة، وكان يستغل الوقت في تدريس التلاميذ، هذا إلى جانب نصيبه من الدروس والحصص، حتى أن مدير المدرسة قدمه على الكثير من المدرسين البحرينيين، وحصل على مكافأة الأداء الوظيفي، وبعد انتهاء مدة خدمته في المدرسة سافر، فبدأت تنهال عليه الشكاوى من قبل أولياء الأمور، واتضح بعد فوات الأوان أن السر وراء دوامه و«التزامه الوظيفي» أنه كان يقدم دروساً خصوصية للتلاميذ أثناء الدوام المدرسي، مقابل مبلغ من المال من دون علم إدارة المدرسة، وبالتعاون والتنسيق مع أولياء الأمور مباشرة، وعندما انتهى عقده سافر بشكل مفاجئ ولم يخبر الأهالي بذلك، ما سبب إرباكاً شديداً للطرفين (أولياء الأمور والتلاميذ) إلى جانب الأموال التي دفعت له مقدماً فأخذها ورحل. أتصور أنه إذا حدث وأن حددنا بحرنة الوظائف التربوية ستكون لدينا نماذج مماثلة والأولى أن لا نحاكي المثل الشعبي « عذاري تسقي البعيد وتخلي القريب» فـ «أهل مكة أدرى بشعابها»، لا نريد ترقيعاً أكثر للنظام التعليمي فلا يحتمل أكثر من ذلك، وعلينا أن نفكر ملياً في تصحيح الأوضاع التعليمية من خلال استغلال الكفاءات البحرينية، ولا سبيل لدينا من الاعتماد على غير الكوادر البحرينية. علينا أن نفكر بنوعية البرامج التي تعد لنا مدرسين قادرين على القيام بأدوارهم الوظيفية ولابد لنا من الاهتمام أكثر بنوعية الشخصيات التي تستطيع أن تتعاطى مع مهمة التدريس، فالتدريس يحتاج إلى صبر وإخلاص ويحتاج إلى إبداع وتجديد كما يحتاج المدرس أن يكون ذا شخصية قوية قيادية حتى يتمكن من إدارة صفه، وبالتالي توجيه السفينة
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 1200 - الأحد 18 ديسمبر 2005م الموافق 17 ذي القعدة 1426هـ