اعتدنا نحن العرب على هلوسة الحكام العربية، منهم من كان يقف في الشارع ليصرخ انه يحكم «دولة العلم والايمان»، التي لم تقم مثلها دولة في الأرض ولا في السماء، ومنهم من جمع على صدره النياشين كما جمع لنفسه الألقاب، ومنهم مجموعة ادعت بالجملة الانتساب لشجرة رسول الله (ص)، وكل واحد منهم وجد حفنة تطبل له وتغني بأمجاده وبطولاته، وتؤمّن على ما يقول. الهلوسة العربية فهمناها، وبلعناها، وتقبلناها بحكم الأمر الواقع، أما أن تدخل أقطاب السياسة الأميركية طور الهلوسة، وبالجملة، في الفترة الأخيرة، فهذا ما يثير الاشمئزاز، الرئيس جورج بوش، زعيم أكبر وأقوى دولة في العالم، قال إن «أسعار النفط العراقي جاءت مخيبة للآمال»، فلكي تكون أسعار النفط العراقي منعشة للآمال، يجب أن تستجيب لطموحات ومخططات أباطرة البيت الأبيض. فبوش، منذ مجيئه إلى الحكم، وهو لا يفكّر بغير أسعار النفط، فمن ذا يصدق أنهم جاءوا من أجل الديمقراطية وتحرير الشعوب؟ بوش الذي لايزال يملك حصصًا في مجموعة «بريتيش بتروليوم أموكو» استنادًا إلى الصحف الأميركية نفسها، لم يكن تاريخ عمله النفطي لامعًا، فوالده هو الذي وضع شركة «سبكتروم 7» تحت إدارته فأوشكت على الإفلاس. وبصفته حاكماً لولاية تكساس لمدة خمس سنوات، جعل يفكر في الحروب كحل للمشكلات التي تواجه أميركا. نائبه ديك تشيني، وزير الدفاع السابق خلال حرب الخليج، ليس أفضل حالاً منه، فقد جمع رئيس مجلس الإدارة السابق لشركة «هاليبرتون» لخدمات البترول ثروته قبل العام 1995 من الاستثمار في مجال النفط. ومنذ بداية ترشحهما لخوض الانتخابات والصحافة الاميركية تصفهما بـ «فريق الأحلام» للصناعة النفطية. فهل من الغريب أن تنتهي تصريحات أباطرة البيت الأبيض إلى الهلوسة عن أسعار النفط؟ هذا الرئيس «النفطي»، وقف قبل أسبوع أمام عدسات التلفزيون ليعلن أن 30 ألف عراقي قتلوا منذ «تحرير العراق»، هكذا وبكل برودة أعصاب، كأن هؤلاء ليسوا بشراً وإنما هم أسراب من الجراد البري، أو قطعان من الماشية... أليسوا عرباً من العالم العربي المتخلف؟، ففي صناعة النفط لا يتكلمون عن حسابات بشرية... وإنما كل ما يعنيهم هو الأسعار، على أن ذلك لم يكن نهاية المطاف، وإنما كنا على موعد مع تصريح آخر مع بوش، حين وقف ليدين عمليات انتهاك حقوق السجناء في سجون وزارة الداخلية العراقية، ووصفها بأنها «غير مقبولة»، ودعا إلى محاسبة المسئولين عن ذلك، ولو كان أمامه صحافي عربي لسأله: «وماذا عمّن تم تعذيبهم وتعريتهم من ملابسهم وتعليقهم على أعمدة الكهرباء في سجن أبوغريب»؟ وهل تمت محاسبة المسئولين عن تلك الجرائم أيضاً؟ هل ترى العالم نسى، أم أن الاميركيين يراهنون على قصر الذاكرة لدى كل الشعوب؟ على أن الهلوسة الأخرى جاءت هذه المرة من فم وزيرة الخارجية الاميركية كوندليزا رايس، في صورة عتاب «أنثوي» رقيق لشعوب العالم أجمع، لعدم إبداء الاهتمام اللازم بمحاكمة صدام حسين، وذهبت في توزيع العتاب إلى حدّ الاتهام لكل دول العالم الأخرى، فلا يجوز في دين وأخلاق ومبادئ الوزيرة البتول القديسة «كوندي»، ألا يبدي العالم الاهتمام اللازم بمحاكمة صدام، كان من المفترض أن يعلن الرئيس بوتين عن فرحته لهذه المحاكمة التاريخية، وكان من المتوقع على الرئيس الصيني أن يعلن عن بهجته الكبيرة لمثول صدام أمام المحاكمة. وكان من المطلوب من جاك شيراك وانجيلا ميركل أن يصفّقا ويرقصا رقصة «السامبا» على وقع جلسات المحكمة. وكان من الواجب أن تعلن جامعة الدول العربية عن «طيرانها من شدة الفرح» لرؤية صدام في قفص الاتهام أسيراً ذليلاً، يحاكم على ما اقترفت يداه، هذا البرود، وهذه اللاأبالية، وعدم الاكتراث، أمر لا يجوز في عرف كوندليزا... فمتى أيها العالم الساهي اللاهي تنتبه إلى كل هذه الهلوسات
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1199 - السبت 17 ديسمبر 2005م الموافق 16 ذي القعدة 1426هـ