اختلف اللبنانيون على تقييم قرار مجلس الأمن الدولي الجديد المتعلق بمهمات لجنة التحقيق في اغتيال رفيق الحريري ورفاقه. البعض اعتبر أن القرار 1644 خطوة متراجعة عن ذاك السياق الذي أنتج القرار السابق .1636 والبعض اعتبره مجرد تكرار للسابق فهو لم يقدم خطوة ولم يؤخر ويشبه كثيراً تقرير ديتليف ميليس الثاني الذي اكتفى بتكرار ما استنتجه في تقريره الأول. والبعض وجد فيه سلسلة نقاط جديدة أضافت أو وسعت أو ربطت بين مجموعة مستجدات تتصل من قريب أو بعيد ببعضها. الخلاصة أن اللبنانيين اختلفوا مجدداً في قراءة نص واضح في فقراته. وهذا ليس جديداً عليهم. فكل طرف يقرأ ما يريده وينظر إلى الكأس من زاويته من دون اعتبار للمجموع العام وتلك الحيثيات التي أملت السير في هذا الاتجاه أو ذاك. لاشك في أن هناك عناصر جديدة في القرار، ولكنها في مجموعها العام ضعيفة ولا تستند إلى قوة إسناد تعطيها ذاك الزخم المطلوب لاستكمال التحقيق بالفاعلية نفسها التي ظهرت في القرارات السابقة. فالجديد في 1644 ليس قوياً بينما القديم فقد حيويته وبات عرضة للتأويل والأخذ والرد وربما الشك. ولهذا يمكن القول إن الطرف الذي تخوف من احتمال انجرار مجلس الأمن نحو مزيد من التدويل و«تفخيخ لبنان» ارتاح إلى هدوء فقرات القرار. فالبلاد لم تعد تحتمل المزيد من الضغط منذ صدور مشروع الفتنة الرقم .1559 ولهذا الاعتبار يمكن تفهم وجهة النظر هذه التي لم تجد الجديد في القرار الجديد. القراءة يجب أن تتجاوز فقرات 1644 حتى تستوعب المستجدات التي يرى البعض أن القرار احتواها بينما يرى البعض الآخر أنه لم يضف الجديد على القديم. فالمسألة تتجاوز القرار. والقراءة يجب أن تربط الحلقات ببعضها حتى يتوصل فرقاء الحكومة إلى تحديد المفاصل وبالتالي السيطرة على الانفعالات. وحتى تتوصل الأطراف المحلية إلى قراءة موضوعية لابد من توسيع دائرة الرؤية وعدم عزل لبنان عن سياقات إقليمية ودولية. القوى الكبرى لا ترى الكون ومصالحها وتوازنات القوة من خلال الثقب اللبناني. فهذا الثقب مجرد ثغرة في جدار سياسي كبير يمتد على محيط جغرافي واسع تتجاوز حدوده البلد الصغير. لبنان مهم، ولكنه ليس بأهمية تلك الاستراتيجيات التي تتشكل منها مصالح الدول الكبرى. وأهمية هذا البلد الصغير أنه مرآة تعكس توازنات القوى في بعديها الإقليمي والدولي. وبسبب تنوعه وتعدد طوائفه ومذاهبه تشكلت في مساحته الصغيرة جملة معطيات تستطيع الدول صاحبة القرار أن تقرأ من خلال أطيافه سياسات تتعدى حدوده الجغرافية. انطلاقاً من هذه الزاوية الصغيرة يمكن للأطراف اللبنانية رصد الاتجاهات العامة التي تعطي فكرة موجزة عن الزوايا الأخرى. ولبنان في هذا المعنى يشكل زاوية من أربع، وبالتالي لا تستطيع الدول الكبيرة أن تلتزم بمصالح وحاجات ومتطلبات جهة وتتناسى الجهات الثلاث الأخرى. القرار 1644 ليس مهماً إلا بقدر ما يؤدي وظيفته الإقليمية. كذلك القرار .1636 والقرار .,,1595 ومشروع الفتنة .1559 فكل قرار له وظيفة. والوظيفة ليست بالضرورة لبنانية. فالعالم بالنسبة إلى الولايات المتحدة لا يمكن اختزاله بحاجات شعب واحد في المنطقة، كذلك مصالح واشنطن لا تعتمد كثيراً على متطلبات لبنان وما يريده هذا القائد أو ذاك الزعيم. فالكل في المجموع الأخير مجرد أرقام في حسابات كبيرة ومعقدة. ولذلك فإن قراءات الدول الكبرى تختلف في أبعادها عن مشاعر القوى المعنية مباشرة بهذا الموقف أو ذاك. فالدول الكبيرة تنظر الى لبنان كجزء من المنطقة حتى لو نظر اللبنانيون إلى بلدهم كوحدة مستقلة ذات شأن وتتمتع بخصوصية غير موجودة في المنطقة أو أن أصحاب القرار بحاجة إليها ولا يريدون التفريط بها. مشكلة بعض اللبنانيين أنه ينظر إلى الواقع برؤية أيديولوجية تبالغ أحياناً بالموقع والدور والوظيفة... بينما الآخر وخصوصاً الدول الكبرى تنظر إليه كقطعة في إطار رقعة شطرنج تحتوي على 64 مربعاً. اختلف اللبنانيون كثيراً في تفسير أبعاد 1644 إلا أن واقع الأمر هو هكذا. وهكذا تعني أنه يجب أن نقرأ ما هو أبعد من حيثيات القرار.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1199 - السبت 17 ديسمبر 2005م الموافق 16 ذي القعدة 1426هـ