في 16 ديسمبر/ كانون الأول العام ،1971 كنت مع بضعة صبية آخرين من حينا، قطعنا جسر المحرق مشياً على الاقدام واخذنا نسير على غير هدى إلى ان وصلنا ناحية قصر القضيبية الذي تحول اليوم إلى مقر الحكومة. وجدنا أنفسنا أمام حواجز معدنية اعدت في الشارع الصغير الذي يضم اليوم مركز سلمان الثقافي ونادي ضباط الشرطة. كان ملعب النادي الاهلي (النسور سابقاً) بالقرب من حديقة الاندلس يكتظ بافراد وآليات نراها للمرة الاولى. رجال يلبسون ثياب الميدان المرقطة ويعتمرون الخوذات وبالقرب منهم انتشرت مدرعات صغيرة من طراز «صلاح الدين». أثار الرجال والآليات فضولنا وشيئا من خوفنا لانهم كانوا مصطفين لا يتحركون. كانت الاعلام البحرينية منتشرة بكثافة على أعمدة الانارة. تابعنا المسير صوب الاشارة الضوئية المعلقة الشهيرة فيما كان علم فلسطين يرفرف على فيلا صغيرة ظلت لسنوات مقراً لمنظمة التحرير الفلسطينية بالقرب من منزل علي يوسف فخرو. لم يمض وقت الا وكان المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان يلقي خطاب العيد الوطني الاول قبل ان يبدأ استعراض قوة دفاع البحرين. مرت التشكيلات، كتيبة المشاة الاولى، جنود يحملون البنادق بأيد مغطاة بقفاز ابيض، مدافع الميدان المقطورة، مدرعات «صلاح الدين» الصغيرة وأخيراً اولئك الذين كانوا يقفون في ملعب النسور جاءوا مهرولين... قوات الصاعقة. كان ذاك أول احتفال بالعيد الوطني، ومنذ ذلك اليوم تم ارساء تقليد جميل في عيدي الاضحى والفطر. كان الناس يتقاطرون إلى حديقة الاندلس لان معظم فعاليات الاحتفال بالعيد كانت تتم هناك. وكانت هناك لجنة في البلدية تسمى «لجنة احتفالات العيد» تأخذ على عاتقها بمقاييس ذلك الوقت تنظيم فعاليات الاحتفال بالعيد. كانت الاحتفالات بسيطة لا تزيد عما كان معروفا في ذلك الوقت الا بامر واحد مستجد. فرق فنية شعبية، باعة الحلويات والمكسرات والنقل، اما الجديد فقد كان يدعى: فرقة موسيقى قوة الدفاع. كانوا يعتلون مصطبة اسمنتية دائرية ترتفع نحو متر واحد عن الأرض. يعزفون الموسيقى من كل نوع، المارشات الخفيفة والالحان الرائجة للاغنيات، بموسيقى القرب الاسكتلندية تارة وموسيقى آلات النفخ تاره أخرى، لكنهم دوما كانوا يعزفون تلك الأغنية الشهيرة: «زهرة المدائن». وما ان يدق قائد الفرقة بعصاه الحمالة المعدنية للنوتة، ترسل آلات النفخ الجملة الموسيقية الأولى للمغناة ويخيم على الجمهور صمت مطبق اقرب لصمت الطقوس... «لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي». كانوا عازفين مهرة. لم يكن الجمهور المتحلق حولهم ليخف ابدا، كان الناس من كل الاعمار يزدحمون حولهم دوما. هذه الفرقة أصبحت فرقا وبات لكل التشكيلات الكبيرة في قوة الدفاع فرقتها الموسيقية الخاصة. اما فرقة موسيقى الشرطة، فقد كنا نسمع بفوزها في مسابقات فرق موسيقى الشرطة التي تقام في المانيا سنوياً. فازوا مرتين، عدا ذلك لم نعد نشاهد او نسمع فرق موسيقى الجيش والشرطة الا فيما ندر وفي مناسبات خاصة جداً وغير متكررة. راح وقت وجاء آخر تحولت فيه احتفالات العيد الوطني إلى استعراضات من نوع آخر. تلك الاستعراضات التي تقام بالقرب من الاستاد الوطني واستعراض السيارات الذي تشارك فيه الاندية والالعاب النارية واحياناً تحلق مقاتلات «اف 16» في الاجواء. لا بأس من هذا كله، لكن تلك الصلة الحميمة التي خلقتها الموسيقى اختفت وتلاشت. كانت موسيقى الجيش تطل على الناس في احتفالات متواضعة وبسيطة بعيد الفطر وعيد الاضحى، لكن الا ترون ان العيد الوطني هو الوقت المناسب تماماً لكي تعيد الفرق الموسيقية للجيش والشرطة صلتها بالمواطنين؟. العيد الوطني ليس مناسبة سياسية محضة، وهو ليس للكبار الذين من حقهم وبامكانهم ان يختلفوا ويتشاحنوا طيلة العام بشأن السياسات والخطط ويتبادلون الاتهامات فحسب، بل انه عيد لجميع المواطنين. آلاف المواعظ والمقالات التي تكتب بهذه المناسبة في اصول التربية الوطنية وزرع حب الوطن في الصغار لن تجدي شيئا طالما ان الرباط الذي يجمع الناس بعيد استقلالهم مازال تجريدا ليس له بعد حسي ملموس. هل ستجدون افضل من الموسيقى؟. انني اتساءل: لماذا لا تطوف فرق موسيقى قوة الدفاع والشرطة المحافظات الخمس؟ لماذا لا تعود الفرق الموسيقية لقوة الدفاع تعزف من جديد في الحدائق العامة والساحات في احتفالات العيد الوطني؟.
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1198 - الجمعة 16 ديسمبر 2005م الموافق 15 ذي القعدة 1426هـ