تستغرب الإدارة الإيرانية الجديدة استغراب العالم الغربي من مواقف رئيس فريق الحكم الإيراني الجديدة بشأن القضية الفلسطينية، وتعتبر هذا الاستغراب في غير محله تماماً. فالرئيس أحمدي نجاد الذي أثارت ولاتزال تصريحاته «العواصف» الديبلوماسية في الغرب لا تحمل لا من قريب ولا من بعيد أي تهديد مباشر أو غير مباشر لاي طرف عضو في الهيئة الدولية بما فيها الدولة العبرية، لم يجيش الجيوش ضد أحد ولم يطلب حتى من جيشه الاقدام على إزالة هذه الدولة من الخريطة، على رغم حقه المشروع كرئيس دولة مسلمة لنصرة شعب مسلم شقيق يرزح تحت الاحتلال ويعاني من «هولوكست» يتم بثه يومياً بشكل حي ومباشر على الهواء وأمام أعين هذه المجتمع الغربي الظالم بحق أهل الأرض والقضية، هذا ناهيك عن الواجب الملقى على تلك الدول المستغربة لتصريحات أحمدي نجاد بضرورة نصرة الفلسطيني المظلوم بحسب أعراف المنظمة الدولية، وهو ما لم تقم به الدول المستغربة، ناهيك عن قيامها بدو معاكس تماماً وهو «تزريق» المعتدي «بدم حربي جديد» مع كل صباح جديد يطل على العالم. ثمة مفارقات عجيبة تحصل فيما العلاقات الدولية هي ما أراد ولايزال يصر على التأكيد عليها الرئيس الإيراني من خلال تصريحاته المتواصلة بشأن هذا الموضوع الخطير والحساس، وتصريحات أحمدي نجاد لا تخرج عن كونها «رأياً آخر» على العالم الظالم «التعود» على سماعه من الآن فصاعداً في التخاطب الدولي، كما يعتمد فريق الحكم الإيراني الجديد. وخلاصة هذه المفارقات هي كالآتي: ثمة كذبة تاريخية تم تلفيقها في قاموس التاريخ العالمي المعاصر تحت عنوان «المحرقة اليهودية» أو الهولوكوست، يراد للعالم أن يصدقها بقوة الحقيقة ويعيش عقدة ذنب إنسانية دائمة تجاهها حتى يظل يعطف على/ أو يتعاطف مع أي فعل يهودي في العالم ويرد لهذه الفئة من الناس أو من يتحدث باسمها أي فعل تقوم به حتى لو كان من جنس الهولوكوست والمحرقة المزعومة نفسها، المفارقة الثانية التي «نام» العالم عليها ولا يريد التخلص منها بفعل قانون الغلبة الغربي، هي أنه حتى لو افترضنا صحة هذه الخرافة، كما يقول أحمدي نجاد وهو ما يشاطره فيها مؤرخون غربيون كبار أيضاً، فما ذنب الفلسطينيين والعرب والمسلمين حتى «وجب» عليهم تحمل نتائج ما ارتكبه الغربيون أنفسهم من مجازر أو محارق؟، المفارقة الثالثة هي السكوت بل التواطؤ الغربي المريب تجاه الهولوكوست الصهيوني اليومي تجاه الفلسطينين. المفارقة الرابعة تكمن في الواقع في ذلك التواطؤ الغربي المنظم في عملية «ضخ» يهود العالم إلى فلسطين المحتلة حتى ان رئيس دولة مثل فرنسا تراه يفتخر بالاشراف شخصياً على «تعبئة» طائرة فرنسية متجهة إلى تل أبيب بمواطنين فرنسيين يهود، ويتم منحهم الجنسية الإسرائيلية وهم على متن الطائرة فيما يمنع أصحاب الحق في الأرض والهوية من استيفاء حقوقهم ويتم طردهم بشكل منظم من أرضهم التاريخية، ناهيك عن منع المطرودين من أرضهم بقوة قانون الغلبة الظالم والمجحف من العودة إلى أراضيهم الأصلية، المفارقة الخامسة وهي الأعجب في تاريخ الأمم والشعوب هي اعتبار الضحية المدافع عن أرضه وحقوقه وذاكرته ولحمه ودمه ورزقه، وهو المعتدي والطرف «النشاز» في المعايير الدولية والذي يجب «تأديبه» وتدجينه فيما يتم تعريف الجلاد والمعتدي على حقوق الغير بمثابة «المظلوم» والمعتدى عليه والمعرض لخطر الابادة من قبل «الهمج الرعاع» والإرهابيين، المعادين للسلام والأمن والاستقرار العالمي، هذا هو بالضبط ما تريد تصريحات أحمدي نجاد أن تكشفه للعالم الظالم الذي مات ضميره وانعدم وجدانه على بوابات أوطاننا، وهي التصريحات التي لم تتجاوز حدود «الرأي الآخر» الذي لم يعد الغرب بقادر على تحمله من أحد حتى لو كان من مواطني بلاد الغرب نفسها، فيتم اعتقالهم وتغريمهم ومعاقبتهم كما حصل أخيراً مع المؤرخ البريطاني الشهير الذي تم اعتقاله في مطار فيينا للأسباب نفسها، فما بالك أن يسمعوا ذلك من رئيس دولة «مارقة» تغرد خارج سرب نادي الظلم العالمي الذي بات يرمز إليه اختصاراً وقسراً بـ «المجتمع الدولي»، كنت التقيت أخيراً الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش على هامش معرض بيروت للكتاب، وبعد أن غمرني بحبه ووده ولطفه اقترب مني هامساً في أذني: قل لأحبابك واخوانك إنه ليس من الحكمة والمتعارف أن يتحدث الرؤساء بلغة المواطنين... ذلك أن عالم الكبار لا يستسيغ هذا التخاطب... ونحن قلبنا عليكم وان كنتم تتحدثون بلغة الناس كل الناس... نعم ايها الشاعر الكبير، إن عالم الكبار لا يمكن أن يقبل بلغة أحمدي نجاد، لكنه ألم يئن الاوان لهذا العالم الظالم أن يعي ويستوعب وجود عوالم أخرى تفكر بطريقة غير الطريقة التي اعتاد عليها؟، إنها عوالم من «جنس الناس» التي لا تعرف تلك اللغة الخشبية الديبلوماسية الخالية من الوجدان والشعور بآلام الآخر. أياً يكن رأينا بأحمدي نجاد ومن يمثل أو ما يمثل، لكن يبدو انه استطاع ان يرسل رسائل حازمة وقوية وواضحة وشفافة جداً إلى عالم الكبار باسم الناس، الناس في ايران كما في كل مكان من العالم العربي والإسلامي على ما اظن، ولاسيما باسم الناس في فلسطين، وهي لغة أقرب إلى وجدان الشاعر الكبير محمود درويش وقلبه حتى وان «تعارضت» في الظاهر مع لغة «عقل» الرؤساء كما ذكر درويش وكما اعتاد العالم فعلاً ان يسمع الرؤساء يتحدثون، لكنها بالتأكيد ستكون اللغة التي ينبغي ان يتعود عليها العالم لمدة 4 سنوات على الأقل مع عالم أحمدي نجاد اتفقنا معه أم اختلفنا... لعل في ذلك فرصة لاعادة تركيب هرم العلاقات الدولية على قاعدته الصحيحة بعد طول اعوجاج
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1198 - الجمعة 16 ديسمبر 2005م الموافق 15 ذي القعدة 1426هـ