«بعد خراب البصرة» توجه العراقيون في كل مللهم ونحلهم إلى صناديق الاقتراع في 15 ديسمبر/ كانون الأول الجاري للتصويت على انتخاب الجمعية الوطنية. وعلى خلاف الفترة السابقة لم تشهد الانتخابات التشريعية مقاطعة تذكر من قوى سياسية وفعاليات شعبية. وهذه المسألة تعتبر خطوة متقدمة في اتجاه التوافق المبدئي على موضوع كان مدار نقاش حين قاطعت احزاب المحافظات ذات الغالبية السنية التصويت على الدستور. فكرة المقاطعة تم تجاوزها وهي أصلاً لا معنى لها في عالم السياسة. فمن يريد التعاطي في الشأن العام عليه ان يقدم تنازلات حين يقرر التعامل مع الوقائع. وأحياناً تفرض عليه التطورات (حتى لو جرت بأسلوب انقلابي) التفاوض على مبادئ من الصعب التخلي عنها. فالسياسة مساومة، وهي في النهاية تتأسس على مجموعة تسويات تحترم توازن المصالح وموقع كل طرف في المعادلة. الملاحظات التي وضعتها الأطياف السنية وبعض الاتجاهات الشيعية والكردية والعربية على الدستور صائبة وصحيحة في جوهرها... وهذا الأمر لا يعني ان المقاطعة (الحرد السياسي) هي الرد السليم على وقائع جارية بحكم الأمر الواقع. كذلك المشاركة في الانتخابات التشريعية لا تعني التخلي عن ملاحظات وضعت على دستور صاغه الاحتلال وفق تصورات لا تنسجم بالضرورة مع واقع العراق وتركيبته. المشاركة لا تعني الموافقة على النتائج السياسية التي اسفر عنها الاحتلال الأميركي للعراق، ولكنها تعطي إشارة الاستعداد للانخراط في ساحة الصراع للاسهام، ومن موقع السلطة التشريعية، في حل الكثير من الكوارث وغيرها من تداعيات متوقعة في بلاد الرافدين. الانتخابات التشريعية التي حصلت في منتصف الشهر الجاري لا تعني اطلاقاً بداية نهاية أزمة، وانما قد تعني بداية تأزم في حال فشلت الأطراف في تشكيل حكومة تأخذ في الاعتبار توازنات القوى والتكتلات ومسار التحالفات التي ستقرر الخطوات المقبلة. المشاركة إذاً ليست القياس الأخير وانما بداية وعي سياسي يتعامل بواقعية مع تعقيدات تحتاج إلى توافقات أهلية لانقاذ العراق من احتمال تفكك كيانه واضمحلال دولته من خريطة «الشرق الأوسط الجديد». فالمهمة الأولى الآن هي منع هذا المشروع الأميركي من النجاح. وحتى لا ينجح تقتضي الواقعية السياسية إعادة إنتاج صيغة توافقية تضع سلسلة نقاط تبدأ من منع تفكيك بلاد الرافدين إلى دويلات طوائف كما تتجه خطة واشنطن. الرئيس جورج بوش نفى في خطابه الأخير وجود خطة من هذا النوع. وأكد ان لا علم له بوجود هدف يريد تقسيم البلاد إلى ثلاث دول (كردية وسنية وشيعية). وجدد التزامه بوحدة العراق وسيادته وإقامة دولة واحدة ومشتركة. نفي الرئيس الأميركي لا يعني انه قال الحقيقة. فالكلام العام ليس مهماً في وقت تظهر الوقائع على الأرض وجود مثل هذه الخطة. وهناك بعض مواد في الدستور العراقي الجديد يعطي شرعية لقيام مثل هذا الاحتمال. احتمال تقسيم العراق إلى دويلات قومية ومذهبية ومناطقية مسألة واردة واقعياً وتحت غطاء دستور لم يتردد في إعطاء صلاحيات استثنائية للأقاليم على حساب السلطة المركزية. فالدستور غامض ومتناقض في هذه المجالات. فهو أعطى فرصة للأقاليم (المحافظات) بالتمرد أو الرفض أو المناكفة حين قلصت بعض مواد الدستور من قوة الدولة المركزية وحددت دورها التدخلي في بعض الأنشطة وعطلته في أنشطة أخرى. المشاركة إذاً في الانتخابات التشريعية كانت ضرورية لأنها تدل على نضج سياسي وبداية اكتشاف لأهمية لعب دور في عملية انقاذ الدولة من الاضمحلال. والمشاركة ليست الفصل الأخير في المشهد السياسي وانما هي الفصل الأول في سياق عام يتطلب المزيد من التعاون مع مختلف الأطراف والأطياف بهدف تعديل بعض مواد الدستور والاتفاق على جدول زمني لطرد الاحتلال وإعادة ترميم كيان دولة تعرضت للتقويض ويحتمل ان تواجه خطة التفكيك. أمام الجمعية المنتخبة الكثير من المهمات الا ان الأساسي يبقى هو التوافق على حكومة انقاذ وطنية تضع أمامها الكثير من القضايا المشتركة. والمشترك لايزال على رغم الفوضى والكوارث الأقوى في المعادلة الداخلية... وغير ذلك لا أمل لظهور عراق جديد موحد ومستقل. عراق أم «عراقات»؟ الجواب تقرره الجمعية الوطنية بالضد من الاحتلال ومشروعه.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1198 - الجمعة 16 ديسمبر 2005م الموافق 15 ذي القعدة 1426هـ