بعيداً عن المواقف أو التصريحات المتشنجة السلبية والإيجابية بشأن مطالبة الحكومة اللبنانية دول مجلس الأمن بتشكيل محكمة ذات طابع دولي وتوسيع مهمة اللجنة الدولية والتمديد لها لمعرفة «من قتل رفيق الحريري». .. بعيداً عن كل هذا حقق اغتيال النائب والصحافي جبران تويني أهدافه القريبة. فالاغتيال قصد به زيادة الضغط الدولي على دمشق وتوتير العلاقات «المفخخة» السورية اللبنانية مضافاً إلى تفخيخ العلاقات الأهلية وإعادة رسم خريطة التحالفات الطائفية الحزبية التي استقرت منذ شهور على معادلة داخلية قلقة. والجانب الثاني هو الجديد في تداعيات الجريمة. الهدف من الاغتيال يمكن قراءة عناوينه على مستويات دولية ومحلية وإقليمية. فالاغتيال على المستوى الأول شجع مجلس الأمن على مناقشة موضوع طلب حكومة لبنان بتشكيل محكمة دولية وانتهى إلى «أخذ العلم» ولم تتوافق دول المجلس على الأمر. وعلى المستوى الثاني أسفر الطلب عن إحداث انشقاق في تحالفات لبنانية استقرت بعد الانسحاب العسكري السوري من دون أن تتطابق سياسياً. وهذه نتيجة سلبية يمكن أن تتطور إلى كارثة إذا لم تسارع الأطراف المعنية إلى احتواء تداعياتها. وعلى المستوى الإقليمي أعاد الطلب رسم حدود الاتصالات التي جرت سابقاً بشأن المطلوب «لبنانياً» من دمشق. فالاغتيال الأخير رفع من السقف وبات البعض يطالب بتغيير النظام وليس تغيير سياساته. وربما هذا ما كانت تراهن عليه بعض القوى الدولية. حادث اغتيال تويني في مثل هذا التوقيت وفي لحظة تمر بها المنطقة في أقسى منعطف حقق أهدافه القريبة وهي تفخيخ العلاقات الأهلية ورسم خريطة سياسية للتحالفات الطائفية الحزبية تقوم على معادلة إقليمية ليست مستقرة. فالهدف المباشر تحقق وأعيد توريط قوى لبنانية في معركة إقليمية أكبر بكثير من مساحة البلد الصغير. تبقى الأهداف غير المباشرة أو تلك المتعلقة بالنتائج البعيدة من موضوع الاغتيال وما أسفر عنه من مطالبة رسمية بتشكيل محكمة دولية في مناسبة مناقشة مجلس الأمن تقرير ميليس الثاني بشأن اغتيال الحريري. ماذا قال مجلس الأمن؟ «أخذ علماً»... بموضوع المحكمة معبّراً عن «قلق عميق» بشأن كلام التقرير عن «تورط مسئولين سوريين ولبنانيين». ماذا يعني «أخذ العلم» و«القلق العميق» على مستوى الإجراءات الدولية؟ عملياً لا شيء سوى الرصد والمراقبة ومتابعة الضغط وصولاً إلى تسوية أو تصادم. وهذا قد يتطلب فترة زمنية طويلة تتجاوز فكرة «المحكمة الدولية» وربما أيضاً لا يتحمل الأمر تلك الفترة الزمنية لأن التداعيات السياسية الإقليمية تجاوزت فكرة المحكمة أصلاً ولم تعد بحاجة إليها. أخذ العلم يعني بلغة القانون تأجيل البت في المطلب اللبناني إلى فترة لاحقة. والتأجيل يعني زمنياً أحد احتمالين: إما أن الوقت لا يسمح بتشكيل محكمة تستغرق فترة زمنية طويلة من الصعب أن تتحملها الدول الكبرى المعنية بأوراق الملفات الثلاثة اللبنانية والفلسطينية والعراقية. وإما أن تعني أن الدول الكبرى المعنية غير قادرة على تحمل تبعات الموافقة على تشكيل «محكمة دولية» وتفضل أن تستمر اللجنة في عملها كالمعتاد تحت سقف «القلق العميق» من احتمالات التورط المحلي والسوري. الاحتمالان (التصعيد العام أو تخفيف الضغط) يمكن وضعهما في دائرة الحسابات الاستراتيجية الكبرى. أما تلك الحسابات الصغيرة التي تحرك المعارضة اللبنانية أو قوى 14 مارس/ آذار فهي آخر ما يفكر بها قادة الدول الكبرى. فالدول التي تمسك بناصية قرار مجلس الأمن ليست موظفة في خدمة مطالب هذا الفريق اللبناني أو ذاك. وهي في النهاية لها حساباتها الخاصة في «الشرق الأوسط». وتلك الحسابات معقدة في طبيعتها ودرجة توترها السياسي وتقوم على توازنات وعلاقات مصالح تمتد من إيران إلى فلسطين... وبالتالي فهي الطرف الذي يقرر تغيير نظام أو تعديل سياسة أو إنشاء محكمة أو تأجيلها. مشكلة بعض السياسيين في لبنان أنه يفكر بمقاييس غير واقعية وأكبر من حجم بلد صغير. ومشكلة هذا البلد الصغير أنه مهم للدول الكبرى ولكنه ليس مهماً إلى درجة أن عواصم القرار تنتظر بيروت ماذا تريد حتى تلبي ما تريده من حاجات وطلبات. مجلس الأمن أخذ علماً بطلب المحكمة الدولية، فهل أخذت الحكومة والقوى المعنية العلم بأن الاغتيال أسهم في تفخيخ لبنان وعلاقاته الأهلية؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1196 - الأربعاء 14 ديسمبر 2005م الموافق 13 ذي القعدة 1426هـ