شعبٌ عريقٌ مثل الشعب الألماني، أخرج للعالم غوته وفيخته وشوبنهاور وهيجل، لم ينقذه إرثه الثقافي العريق من الوقوع في حبائل النازية. لم ينقذه الكم الكبير من العلماء والفلاسفة والمفكرين، لأن النازية اعتمدت غسلَ الأدمغة وأسلوبَ التكرارِ حتى تتحوّل الكذبةُ إلى حقيقة مسلّمة لدى الجمهور، ولذلك اتجه هذا الشعب العظيم إلى التسليم بالفكرة العنصرية الفجة «للجنس الآري دم أزرق»، وانقادوا من ثمّ لأدولف هتلر في مغامراته لمحاربة العالم كله... أليسوا هم الجنس الأنقى والأرفع؟ أسلوب تكرار المزاعم والمقولات بشكل يومي وملح حتى تصبح مسلّمات، هي من «إبداعات» جوزيف جوبلز (وزير الدعاية النازي)، الذي كان يقول: «إن تكرار الشائعات والأكاذيب يحوّلها إلى حقائق». وهو الأسلوب الذي استخدم قبل عام في ترويج مقولة «الهلال الشيعي»، وتستخدمه بعض الأطراف المحلية اليوم أيضاً عن سابق عمد وإصرار، مع علمهم ان هذا الأسلوب انما يزيد نشر اللهب والكراهية والحقد والتنافر بين أبناء هذا البلد العزيز. وإذا كان من الواجب التحذير من استيراد مصطلحات ملغومة من القرون الغابرة والتنابز بها فيما بيننا، فمن الواجب أيضاً التحذير من استيراد مصطلحات طائفية أخرى تقليداً لوسائل الإعلام العربية الفاشلة، التي كرّست قواها لتأجيج النيران في العراق للإجهاز على ما تبقى فيه من مقومات حياة تؤهله للنهوض بعد هذه الكبوة والسقوط. هذا الإعلام العربي الديماغوجي «شركةٌ قابضة»، ولذلك لا يهمّه مصير الشعوب ولا حريتها ولا تحرّرها من الاحتلال. وفي هذا الإطار تأتي حرب «المصطلحات الطائفية المعاصرة»، فيما نلمسه من استخدام ممنهج لمصطلح «الصفوية» ومشتقاتها بشكل يومي، على طريقة «العم جوبلز»، لتصفية حسابات داخلية بحتة. وهو عملٌ مشبوهٌ من منظور وطني، لابتعاده عن روح المسئولية والحكمة والالتزام. ولكشف عملية الزيف هذه، تاريخياً لم يكن الحكم «الصفوي» ممثّلاً شرعياً ووحيداً للشيعة، ولا يمكن اعتبار الصفويين دولةً شيعيةً إلاّ بمقدار ما يمكن اعتبار الأمويين والعباسيين والسلاجقة والمماليك والعثمانيين دولاً سنية. اننا أمام «سلالات» حاكمة، تسيطر على الملك بالقوة والعصبية حسب فلسفة ابن خلدون، فيورث فيها الآباء للأبناء الملك وخزائن الذهب والفضة ومصائر العباد والبلاد، وفق قاعدة «هذا ما جنته سيوفنا»، أما الكلام الكثير عن مذهبية هذه الدولة أو تلك فيحتاج إلى كثير من المراجعة والتدقيق والصدق مع الذات. من هنا فإن المنطق العلمي يرفض اعتبار الصفويين «الممثل الشرعي والوحيد للشيعة»، حتى يوصفوا بما يشبه التهمة الجاهزة. فقد سبقهم آخرون في إقامة دول «شيعية» أخرى، لعلّ أشهرهم الفاطميون في مصر وشمال أفريقيا» والأدارسة في المغرب» والحمدانيون في الشام» والزيديون سواءً في اليمن، أو في الديلم والجبل وطبرستان (ايران)» والبويهيون في فارس والعراق إذ امتد حكمهم للقطرين 126 عاماً» فضلاً عن بعض السلطنات «الشيعية» التي قامت في الخليج وشبه القارة الهندية واندونيسيا. وعليه تصبح محاولة ربط التشيع بالحكم الصفوي حصراً، لعبةً مكشوفةً، فيها الكثير الكثير من التجنّي على حقائق التاريخ والإستهانة بعقول العالمين. وما ينبغي التذكير به، ان تاريخ الشيعة جزءٌ لا يتجزأ من تاريخ الإسلام العظيم. والشيعة ليسوا بحاجة إلى من يثبت ريادتهم في علوم الفقه والتفسير والفلسفة وعلم الكلام وكتابة التاريخ وتقعيد اللغة وتأصيل النحو... يكفي الاستدلال ببعض الرموز الشعرية الكبرى، التي تبدأ بالمتنبي وأبي فراس الحمداني والكميت، ولا تنتهي بالحلي والجواهري في العصر الحديث. فلماذا يتم حصر هذا المذهب الإسلامي الخامس والعريق، ودمغه بالصبغة الصفوية، مع ما تحمله من إيحاءات سلبية يُراد ترسيخها في أذهان الجمهور بصورة يومية ، اقتداءً بدين ومبادئ شيخ النازيين جوبلز (قدّس الله ظلّه)؟ نحن أمام وقائع وحقائق تاريخية دامغة، لا يمكن إنكارها أو التلاعب بها أو القفز فوقها، إلاّ إذا أراد هؤلاء الكتّاب أنصاف المثقفين والخطباء شبه الأميين أن يكونوا مهرّجين. وحبل التهريج بالمناسبة قصير... خصوصاً إذا عرفنا أن زعماء هذه الحملة هم من بقايا البعثيين وغلاة القوميين والمتعصّبين الطائفيين، الذين يرون الحصان فيُقسِمون أنه بقرة، جوبلز يوم سقطت مبادؤه وانكشفت أباطيله، أجبر زوجته وأطفاله الستة على تناول السُمّ، ثم انتحر، أما هؤلاء الغلاة المتعصبون، فيقدّمون السمّ زاداً يومياً... وينسون أن طابخ السمّ آكله. حلقةٌ جهنميةٌ يشعلون نارها في الصحافة وفوق المنابر، وتنتهي بقتل الأبرياء بالسيارات المفخّخة في العراق،
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1195 - الثلثاء 13 ديسمبر 2005م الموافق 12 ذي القعدة 1426هـ