في الوقت الذي كان الرئيس السابق لجمهورية إيران الإسلامية محمد خاتمي يسعى إلى إلقاء محاضرة بدعوة من الحركة الثقافية في انطلياس، شمال بيروت، الضاحية المسيحية المكتظة، وتقدم المحاضرة في قاعة محاضرات لصيقة بكنيسة مار الياس. .. يفجّر رئيس الجمهورية الإيرانية الحالي أحمدي نجاد، عاصفة إعلامية وسياسية من مكة المكرمة، التي احتضنت مؤتمراً للمؤتمر الإسلامي كان يحمل عنواناً ضخماً تحت اسم «مكافحة التطرف وتطوير التعليم ونحت مدونة لأخلاق الإعلام»، في سبيل تقديم خطاب معتدل يظهر المسلمين على حقيقتهم. تصريحات أحمدي نجاد حصدت أكثر التعليقات سخونة وسرعة من الجانب الغربي، وربما غطت على كثير مما توقع معظم الحاضرين في مؤتمر الدول الإسلامية في مكة أن يتركوه من صور الاعتدال والحث على الحوار. محتوى تصريحات أحمدي نجاد لا تخرج عن توقعات ومطالب الجمهور العربي أو حتى الإسلامي بصورة عامة، وتجد لها آذاناً صاغية ومرتاحة أيضاً، لأن مثل هذه التصريحات في الجوهر تلقي ضوءًا باهراً على معاناة الفلسطينيين الطويلة، إلاّ أن صوغ التعبير والخطاب نفسه، وإن كان هو هاجس الجمهور العريض، حين يأتي من قائد في سوية رئيس الجمهورية الإيرانية، يزيد الطين بلة على الجمهورية الإيرانية نفسها، ويعقّد المشهد الدولي والذي هو بطبعه معقد تجاه مجمل سياسات الدولة الإيرانية. طبعاً كان هناك أكثر من طريق لإلقاء الضوء الكاشف على معاناة الفلسطينيين، وبالقوة المعنوية نفسها أو أكثر منها، إلاّ أن اختيار مناطق حساسة (كالتشكيك في وقوع الهوليكوست، أو اقتراح بدائل جغرافية في أوروبا تحمل معنى تاريخياً سلبياً لإرسال اليهود لها) تسمع سلباً في العقل الجمعي الغربي، هي دليل، إن حسنت النوايا، على الخبرة التي تنقص الرئيس الجديد في القضايا الدولية، وهي تضيف إلى كلماته في الأمم المتحدة منذ أشهر خلت بشأن «ظهور المهدي» والتي بدورها لفتت إلى لغط واسع مازال قائماً في أوساط الإعلام الغربي، تضيف إليها تأكيداً لنقص الخبرة الدولية والتعامل مع العالم الذي نعيش، تعامل البسطاء. ردة الفعل الغربية على التصريحات هذه نابعة من المعرفة اليقينية أن ذاك ما يجيش تحت السطح في المنطقة برمتها جماهيرياً، إذ إن ما يحدث للفلسطينيين يومياً من قمع يشاهد على محطات الأخبار كل مساء، يزيد من الاحتقان، ولذلك فإن تصريحات مثل هذه، تعتقد تلك النظرية، يصب الزيت على النار، ويشعل الفتيل أيضاً، ويهيئ لاضطراب أكبر. في الوقت الذي يرحب الأمين العام لكنائس الشرق الأوسط في بيروت وفي مقر الحركة الثقافية المسيحية، التي استضافت السيدمحمد خاتمي مكرراً، بعد أن كانت قد استضافته قبل تسع سنوات، عندما كان مديراً للمكتبة المركزية في طهران، ويُقدّم الرئيس الإيراني السابق للجمهور الحاشد، على أنه الداعية لحوار الحضارات والثقافات والأديان، إلى درجة أن الأمين العام للأمم المتحدة، قد اختاره لعضوية اللجنة الدولية لحوار الحضارات، وهو القادم من إيران، وكان رئيساً لها، تعني صورة أخرى لإيران مناقضة تماماً لاعتزال العالم والادعاء بالتفرد. خاتمي في تلك المحاضرة ردّ على سؤال يتوق إلى معرفة جوابه كل عاقل وهو «في أي عالم نعيش، وما هي رسالة الدين في هذا العالم»؟ ومن يقرأ تلك المحاضرة التي نشرت بعض صحف بيروت ملخصاً لها الأسبوع الماضي، يعرف أنه أمام رجل دين مستنير، يعرف تماماً في أي عصر يعيش. إنه يدعو إلى حكمة تقول بتجدّد فهم الإسلام يمكن أن نستغني عن العلمانية، كما أنه رجل يعرف أيضاً قوة ثقافته المحلية (الإيرانية) وعلاقتها بثقافته الدينية والإنسانية في قبوله لكل الأديان والاعتراف بما قاساه الآخرون في الإنسانية من عنت السياسة الفجة، ويعرض البعد الحضاري والثقافي الإيراني كبوتقة تستطيع أن تسير في عالم اليوم المعقد. ومن يتمعن في المحاضرة يعرف أن خاتمي لم يحد عن ثوابت مقتنع بها، سواء كانت تخص بلاده إيران، أو تخص الوضع العام في الشرق المثقل بالأزمات والمتعب بالشرور. إلاّ أن لغته وخطابه ونقاط انطلاقه تختلف جذرياً عن خطاب أحمدي نجاد. ماذا تكسب إيران من الخطابين؟ هو السؤال الملح على المتابع. في مكة لحقت تصريحات أحمدي نجاد بالاجتماع فأعطبت صورته، وغطّت على الكثير من الإيجابيات المتوخاة لمثل تلك الدعوة، على الأقل في بعض الدوائر الإعلامية الغربية، وكانت هي بمثابة الفاكهة التي تفكهت بها مؤسسات البث الإعلامي الدولي، لدعم التخوف الجماهيري الغربي من هذا الغاضب الجديد الذي يقف على رأس حكومة إيران. يشدد خاتمي من جهة أخرى على أهمية الاعتراف بالآخر، ونبذ العصبيات القومية والطائفية، ونبذ العادات الذهنية المذمومة، وهو أمر ظهر جلياً في وثائق مؤتمر مكة المكرمة الذي شدّد من جانبه على نبذ التطرف والغلو والانغلاق الفكري، وعلى تأكيد الاحترام المتبادل وعدم تكفير المذاهب الإسلامية المختلفة في الاجتهاد، وهو الطريق الذي لا طريق غيره لإشاعة الحسنى، ونبذ الاضطراب. وهو تراث ديني وحضاري تأصل في كل الدعوات الدينية والإنسانية. كما أن إيران تكسب من هذا الخطاب الكثير من الدفء والكثير من التعاطف. قد يقدم أحمدي نجاد من دون أن يدري وبحسن نية منقطع نظيره، أدوات ضاربة في يد من يريد ببلده شراً. لقد شهدنا مثل هذه التصريحات التي تداعب خيال العامة، ويصفّق لها الموافقون دون وعي، ولكنها تجلب على الشعوب أفدح الأضرار. وما علينا إلاّ مراجعة بعض المجريات التاريخية القريبة، حتى نعرف أن العرب عندما قالوا «لكل مقام مقال» لم يكونوا يحيدون عن الحكمة.
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1194 - الإثنين 12 ديسمبر 2005م الموافق 11 ذي القعدة 1426هـ