في بلد مكوّن من طائفتين رئيسيتين كبيرتين، يعاني من واقع سياسيّ محتقن، ووضع اقتصادي صعب، تأتي حرب المصطلحات الطائفية لتصبّ مزيداً من الزيت على النار، خصوصاً إذا تحوّلت إلى خطب «بتراء» على المنابر، تسيطر فيها لغة الشتائم، وتلهج بعض الألسنة بالدعاء لهلاك الطرف (المسلم) الآخر، ولا يتورع «خطيب الجمعة» ونائبٌ في البرلمان عن التعبير عن أمنيته الكبرى في أن يرى يوماً أسود «للمخالف»، أسوةً باليهود والنصارى، أهذه هي البحرين التي نعرفها أم إحدى سلطنات الطوائف في الأندلس؟ أهذا هو القرن الحادي والعشرون، أم القرن الثالث عشر، حين كان السيف هو الأداة الوحيدة للتفاهم مع «الآخر» لأنه لا يستحق الحياة أصلاً،؟ إن استيراد «مصطلحات» القرون الغابرة، واستنباتها في الواقع المعاصر، انما تزيده تعقيداً، خصوصاً مع انبراء بعض «الكتاتيب» محدودي الأفق والثقافة والوعي، لتبرير خطايا الخطباء الطائفيين وتجميل سقطاتهم بصورة غير مبرّرة ولا مفهومة. والساحة لا تحتاج إلى هذا النوع من الكتابات والخطابات، و«الشتائم» والدعوات، وإنما إلى ضبط للنفس ومراعاة للمصلحة الوطنية العليا، التي يبدأ طريقها من احترام كلّ طرف للآخر، على أساس الشراكة في الوطن، والمساواة في الحقوق والواجبات وقضايا الحياة المشتركة. كنا في غنى عن شرح معنى كلمة «الروافض» لولا فذلكة بعض «المفسرّين الجدد» بادعاء انهم «من رفضوا دين الله»، لأنه من أشهر المصطلحات التي استخدمها الأمويون لتشويه المعارضين السياسيين لهم في القرن الهجري الأول، حين أرادوا تحويل الحكم الإسلامي الرشيد إلى ملك عضوض، والاستئثار بالمال العام دون بقية المسلمين. وبلغة صحافية معاصرة ، كان المصلطح أحد العناوين و«المانشيتات» التي استخدمها الأمويون ضد تيّار العلويين المعارضين للظلم. من هنا نعرف أهمية الموقف البطولي الجريء للإمام الشافعي (رض) في تصدّيه لهذه الحملة الإعلامية، من خلال رفعه جهاراً تلك الأبيات الشعرية الشهيرة: إن كان رفضاً حبّ آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي وهي عمليةٌ أقرب لمحاولة «تطويق الفتنة» والدفاع عن المظلومين في زمن العسف والجور وصلب المعارضين. فلم يكن الشافعي (رض) يعبّر عن موقف دينيّ بحت فحسب، وإنما أيضاً عن موقف سياسيّ ناضج ومسئول، في تلك الفترة المبكّرة من التاريخ الإسلامي الذي سيطر فيه الإستبداد والقمع الأموي على الأمة جمعاء، بحيث «لم يبق بيتُ حجر أو مَدَر إلاّ دخله ظلمهم» كما يقول المؤرخون. في تلك الفترة، لم يكن يعارض الحكم الأموي غير طرفين: الحزب العلوي، وحزب الخوارج الذين كانوا يكفّرون كل المسلمين «المخالفين»، ولأن موقف هؤلاء كان مضطرباً عقائدياً، انتهوا بعد أقل من قرنين إلى قطّاعِ طرق وسلاّبين، كما تنبأ هم الإمام علي (ع) في «نهج البلاغة». وعليه لم يبق غير التيار الأول الذي بقي نشطاً سياسياً لقرون، ليعبّر في حركته وانتفاضاته وثوراته عن ذلك الحنين العارم للعدالة المفتقدة والحرية المصادرة والعودة للمبادئ والمثل العليا التي جاء بها محمد (ص). هذه إذن هي خلفية ترويج المصطلح، الذي أخذ بعداً أكثر تشويهاً مع تعمّق الخلافات المذهبية في قرون لاحقة، بحيث لم يعد يُطلق على مناصري خط أهل البيت النبوي الشريف فكرياً وسياسياً، وإنما تحوّل إلى استنقاص وتشويه متعمّد وحطّ من شأن «الآخر» المخالف. ولأن حبّ أهل البيت النبوي من الأمور التي حثّ عليها النبي (ص)، لم يكن أحدٌ من المسلمين يجرؤ على سبّ أئمة هذا البيت، ولذلك لجأ البعض إلى ضرب التيار الشعبي الموالي لهم، دون التوّرع عن لغة السبّ والشتائم وحتى التكفير. حتى إن عالماً كبيراً في حجم العلاّمة عبدالرحمن ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع، لم يستطع في مقدمته المشهورة أن ينال من هذا الخط السياسي الديني إلاّ من خلال استنقاص المسلمين المنتمين إليه. وإذا كان هذا هو نهج وموقف عالم كبير ، تولّى مسئولية أكبر منصب قضائي في مصر، في عزّ ازدهارها وتقدمها، فماذا يتوقّع المرء من العامة والأميين والبسطاء، إذا ما دُفِع بهم كالأخشاب في أتون الصراع المذهبي المقيت؟ ولأن لكل فعل ردةَ فعل، قوبل هذا العداء والتوجّس بتوجس آخر، وقوبل هذا المصلح بمصطلح مناهض، وهكذا برز مصطلح «النواصب» ليدلّ على من «ينصب» العداء والبغضاء لأهل البيت النبوي، وللتيار الشعبي المؤيّد لهم والمتبني لطروحاتهم الفكرية والسياسية والإصلاحية. ومن هذه النقطة أخذ المصطلح مكانه في الكتابات التاريخية والدينية والعقائدية عبر القرون. والسؤال اليوم نطرحه على جميع أبناء هذا الوطن العزيز: هل يتحمّل الوضع التراشق بالمصطلحات «القديمة» بين أبناء المذهبين الإسلاميين الكبيرين في هذا البلد؟ وهل نحن بحاجة إلى استيراد تلك المصطلحات الملغومة في هذا الزمن الذي تتناوش أمتنا فيه الذئاب؟ وإذا كنا سنستورد شيئاً من القرون السابقة... أليس من الحكمة أن نأخذ «بأحسنها»؟ أم انها حربٌ لابد أن يستدرج للتورط فيها الجميع؟ وللحديث بقية... مادامت مصطلحات الفتنة رائجة هذه الأي
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1194 - الإثنين 12 ديسمبر 2005م الموافق 11 ذي القعدة 1426هـ