ثمة شواهد وقرائن عدة تفيد بأن دول المنطقة العربية والإسلامية فشلت فشلاً ذريعاً في التعاون أو التنسيق فيما بينها، فضلاً عن التضامن، فيما نجحت كل منها على حدة نجاحاً باهراً في التعاون أو التنسيق مع دول أو مجموعات منظمة من خارج المنطقة. اكتشاف ذلك والتحقق منه لم يعد بحاجة إلى جهد كثير أو بحث مضن عن الأدلة والبراهين، بعد أن أصبحت عواصم بلداننا «مكتظة» بسباق المؤتمرات «التعاونية» بين «فريق» من بلداننا العربية والإسلامية وهذه الدولة العظمى أو تلك، أو هذه المنظمة الدولية أو تلك. هذا فيما تكاد تشهد نشاطات أو فعاليات كيانات مثل الجامعة العربية أو المؤتمر الإسلامي ضموراً وتراجعاً حاداً وإن برزت بين الحين والآخر على المشهد أو الشاشة، فإنها إما تأتي متأخرة وبعد فوات الأوان وتبقى في حدود الاستعراض «الإعلاني» أو تحضر في صورة أشبه من لا يملك من «حيلة المضطر إلا ركوبها»، أي ركوب موجة اهتمام عالمي بإحدى قضايانا الحادة، ما يجعلنا نجتمع لها أو من أجلها تحت ضغط «الأمر الواقع»، في نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي جمع اجتماع مهم في العاصمة القطرية (الدوحة) بين أمين عام حلف «الناتو» وعدد من القادة الأمنيين والعسكريين الخليجيين وعدد من المحللين والباحثين الاستراتيجيين والصحافيين كان عنوانه «دور الناتو في أمن الخليج»، ألقى فيه جاب دي هوب شيفر كلمة مهمة في هذا المجال لخص فيها الحال التي تعيشها بلادنا في ظل الاختلال الذي ذكرناه آنفاً، إذ قال: «منذ نهاية الحرب الباردة ظهر المزيد من التهديدات الأمنية... في أجزاء من العالم بدءاً من الإرهاب... مروراً بانتشار أسلحة الدمار الشامل... التهديدات التي لا يمكن احتواؤها بسهولة ويجب التصدي لها... وإلا فإنها ستصل إلى أبواب بيوتنا... إن هذه القناعة هي التي تشكل أساس الحاجة إلى أن نجلس وجهاً لوجه مع شركائنا في المنطقة». ثم أضاف الأمين العام للحلف: «... إن بيئة أمنية جديدة وحلف ناتو جديداً وديناميكية جديدة في منطقة الخليج تعتبر العوامل الرئيسية التي دفعت حلف الناتو في شهر يونيو/ حزيران من العام الماضي لإطلاق مبادرة اسطنبول للتعاون (ICI). إن الدول الأعضاء لحلف الناتو الجديد باتت مرتبطة بمجموعة كبيرة من المهمات تتفاوت من حفظ السلام في البلقان وأفغانستان إلى جهود المساعدات الإنسانية في باكستان ومساندة الاتحاد الإفريقي في دارفور وإجراء عمليات بحرية مضادة للإرهاب في البحر الأبيض المتوسط وتنفيذ مهمة تدريبية في العراق. لقد ساهم الكثير من الشركاء بشكل كبير في معظم هذه المهمات، إذ استجابوا لرغبة الناتو في العمل سويّاً مع الآخرين. إننا، وبواسطة التعاون من خلال الناتو، نستطيع توليد أقوى زخم سياسي وفاعلية عسكرية... إن هذه المنطقة تواجه تحديات أمنية هائلة... وتظل هي النقطة المتوهجة لقضايا إقليمية، من أخطار لانتشار الأسلحة وللتطرف السياسي والديني...». إنها في الواقع لغة الواثق من نفسه ومن قدرته على كسب التعاون الإقليمي اللازم في الظروف والبيئة الأمنية الجديدة التي يتحدث عنها، وهي قدرة واقعية مسلحة بآليات عملية استطاعت أن تحول أطر التعاون في المنطقة، فعلاً لا قولاً، إلى أشكال ومضامين جديدة تماماً، سقطت أو في طريقها إلى السقوط... تلك الأشكال والمضامين القديمة التي ظلت مرفوعة إلى ما قبل 11 سبتمبر/ أيلول وغزوي أفغانستان والعراق. في اسطنبول كما في إسلام آباد، كما في الدوحة، كما في المنامة، كما في الرباط أو عمّان أو حتى الرياض أو القاهرة أو طهران أو دمشق... لم يعد من السهولة بمكان الحديث عن تضامن عربي أو إسلامي أو حتى تكامل اقتصادي، ناهيك عن اتفاقات أمنية أو حلف دفاعي أو عسكري، من دون أن يصطدم ذلك بواقع صلب مغاير لتلك المفاهيم التي اعتدنا عليها حتى نهايات القرن الماضي. لقد تشكلت على الأرض بيئة وظروف أمنية وغير أمنية جديدة باتت تفرض أجندتها على كل دول المنطقة «المتعاونة» منها أو «الممانعة» لا فرق، ولابد لمن يريد أن يتعاون أو يمانع أن يأخذ هذه الحقائق الجديدة بالحسبان، تماماً كما أن الخطر الإرهابي... أصبح على أبواب بيوتنا جميعاً كما يقول الأمين العام لحلف الناتو، فإن عقيدة الناتو المعروفة بشكلها ومضمونها باتت على أبواب بيوتنا... وخصوصاً إذا ما علمنا أن هذه العقيدة محابية للدولة العبرية. ثمة تحد جدي يواجه دول المنطقة ونخبها عليها الإجابة عليه تفصيلاً وآليات وأشكالاً ومضامين... وليس فقط بيانات وشعارات. لماذا فشلت الأطر السابقة والكيانات السابقة في التصدي للمهمات الجديدة والبيئة الجديدة؟، أين مكامن الضعف في تلك الأطر، وأين مكامن ضعفنا نحن، وأين مكامن قوتها وقوتنا في المقابل؟، ثم، هل لجوؤنا منفردين، متفرقين، إلى التعاون مع الآخر القادم بكل ثقله وتراكماته وخبراته ومضامينه المحددة والمعروفة، كفيل بأن يضمن لنا أمننا واستقرارنا الكامل والطويل الأمد فعلاً؟، أليس من الأجدى والأجدر بنا التداعي للبحث عن ترتيبات إقليمية فيما بيننا أولاً قبل أن نذهب إلى التعاون مع الآخر؟، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أليس الأفضل والأسلم والأكثر دواماً لأمن الخليج مثلاً، أن يتم الاتفاق ولو في الإطار العام، على ترتيبات إقليمية بين دول مجلس التعاون الست وكل من إيران والعراق واليمن، ومن ثم نذهب إلى العالم الآخر أو ندعوه إلى التعاون معنا؟، إنها نماذج أسئلة برسم النخب والحكومات والمحللين الاستراتيجيين والصحافيين وكل المهتمين بأمن الوطن والمواطن العربي والمسلم لعلنا نصبح فاعلين بشكل أكثر جدارة
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1193 - الأحد 11 ديسمبر 2005م الموافق 10 ذي القعدة 1426هـ