العدد 1193 - الأحد 11 ديسمبر 2005م الموافق 10 ذي القعدة 1426هـ

توزيع المسئوليات

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أسفرت القمة الإسلامية التي اختتمت أعمالها الأسبوع الماضي في مكة عن نتائج مهمة على الصعيد النظري. فالقمة جاءت في فترة حرجة تواجه فيها الأمة مشكلات وتحديات وضعت معظم الدول الإسلامية تحت خط الخطر. فالكل تقريباً مهدد أمنياً أو سياسياً أو اقتصادياً. وبعض هذا الكل يتعرض للابتزاز السياسي والتشهير الإعلامي والتهويل العسكري. وهناك دول يطلب منها تقديم تنازلات على مستوى العقيدة أو إعادة النظر في برامجها التربوية وتأسيس ثقافة بديلة عن تقاليد سائدة. كل هذه التراجعات مطلوبة دولياً من العالم الإسلامي بذريعة مكافحة التطرف وملاحقة الإرهاب. وهذا لا تستطيعه الدول الإسلامية لأن دول الغرب تطلب منها أن تحل مشكلات عالمية مزمنة تعود إلى أسباب مختلفة. في هذا الفضاء الدولي، انعقدت قمة مكة الإسلامية وانتهت إلى خلاصات نظرية جيدة وضعت خلالها بعض النقاط على حروف مأزق العلاقات مع دول الغرب الأوروبية وأميركا. كذلك حددت الخطوط الحمر، مشيرة إلى وجود قضية مركزية (فلسطين) تتجاهل الدول الكبرى أهميتها ولا تعمل على حل تشعباتها وفق ما تقتضيه مبادئ العدالة الإنسانية. القمة إذاً، لم تعلن الاستسلام، وإنما وزعت المسئوليات وذكرت العالم بوجود نوع من المسئولية المشتركة، وإن قضايا البشر وخصوصاً الثقافية، تحتاج إلى وقت لحلها. إلى ذلك، لابد من أخذ توازن المصالح في الاعتبار حتى لا تقع المسئولية في جانب واحد في وقت تشير كل الاتجاهات إلى وجود جهات مختلفة تتحمل جوانب أخرى من المسئولية. نجحت القمة الإسلامية في حمل العصا من وسطها حين اعترفت بوجود أخطاء يتحمل العالم الإسلامي مسئوليتها، ولكنها طالبت العوالم الأخرى بالمشاركة في حل الكثير من الازمات التي لا يمكن قراءة أوجه وجودها ضمن نظرة صغيرة وضيقة. هذا النجاح يعتبر خطوة متقدمة في سياق تفسير أو توضيح علاقات تأزمت دولياً في السنوات والعقود الأخيرة بسبب تلك الافتراءات التي افتعلتها دول الغرب متذرعة بالإرهاب كوسيلة للكسب ولمصلحة تحقيق حسابات استراتيجية وأمنية ونفطية في دائرة العالم الإسلامي. الجديد في نتائج «قمة مكة» هو توافق الدول الإسلامية على برنامج عمل يتألف من عشر نقاط للنهوض بالعالم الإسلامي. وأهمية النقاط ليست في عناوينها العامة التي تتحدث عن «الوسطية» و«تعدد المذاهب» و«محو الامية» و«التعليم العالي» و«حقوق الطفل» و«حاجات الشباب» و«حقوق المرأة» و«الحوار بين الحضارات» و«التبادل الثقافي بين الدول الإسلامية». مثل هذه النقاط العامة ليست جديدة على المؤتمرات العربية والإسلامية، إذ تكرر طرحها مراراً. الجديد فيها أنها تتحدث في تفصيلاتها عن وجود مشكلات داخلية لابد من معالجتها للنهوض بالامة. فالدول اعترفت أو على الأقل حاولت الاستجابة لنداءات داخلية تتصل بالحياة العامة ونمط العلاقات وظروف الشعوب الإسلامية. وهذا الأمر يعتبر أيضاً خطوة متقدمة لإعادة النظر في تقييم الازمة ومحاولة قراءة بعض جوانبها الخفية. الدول الإسلامية عادة كانت تتهرب من مسئولياتها وكانت أيضاً تأبى أن تكون في موقع التهمة، وخصوصاً إذا جاءت من الداخل. الآن، تبدو تلك الدول في وضع يسمح لها بإعادة قراءة سياساتها السابقة والقبول بتوزيع المسئولية بينها وبين الخارج أو بينها وبين شعوبها. وهذه نقطة إيجابية يمكن إضافتها إلى تلك العناوين العامة التي جاء على ذكرها برنامج العمل العشري. أهم نقاط ذاك «البرنامج العشري» كانت الثالثة، وهي تلك المتعلقة بفكرة إصلاح «مجمع الفقه الإسلامي»... ضمن رؤية جديدة تتعلق بالفتوى وشروطها وظروفها المكانية والزمانية. فهذه المسألة في حال أحسن التعامل معها، تعتبر من الإنجازات التاريخية للقمة. إذ للمرة الأولى تحاول الدول الإسلامية «مأسسة الفتوى» وتحديداً تلك الفتاوى الكبرى التي تمس مجموع الامة وتهدد وجودها أو تعرضها للمخاطر أو تستدرجها إلى مواجهات غير محسوبة أو مدروسة. فكرة إصلاح «مجمع الفقه» وتحويله إلى مرجعية عليا للأمة الإسلامية يقودها علماء من طريق الانتخاب، وتعتمد على رأي الخبراء والمتخصصين، تعتبر نقطة تحول كبرى في تاريخ العالم الإسلامي. فهذه الفكرة إذا طبقت عملياً وتحولت من نظرية إلى واقع، ستسهم في نقل الوعي من دائرة ضيقة جغرافياً ومحكومة بشروط اجتماعية محلية، إلى دائرة أوسع تنظر إلى العالم من خلال توازن المصالح وشبكات علاقاته واتصالاته التي اختلفت في تفصيلاتها عن القرون الماضية. «مأسسة الفتوى» وتحويل الفقه الإسلامي إلى نوع من النظام العام وتفويض العلماء من كل المذاهب والمناطق باختيار نوابهم بالاقتراع يضع العالم الإسلامي أمام مسئوليات جديدة تسمح له بمخاطبة العالم كوحدة حضارية ­ ثقافية، ويمنع تلك التنظيمات «المجهولة» من الانفراد بالساحة السياسية واستدراج أو توريط الدول الإسلامية وشعوبها في مغامرات ومواجهات تستفيد منها «إسرائيل» والدول الطامعة بالنفط والثروات وموقع العالم الإسلامي الاستراتيجي. شكلت قمة مكة خطوة مهمة في سياق أنشطة مختلفة قادت الدول الإسلامية في العقود الأخيرة إلى خط الدفاع بسبب الظروف والضغوط الدولية... إلا أن القرارات وبرنامج العمل العشري صاغت من جديد دائرة الانتباه وردت على التحدي بإبداء الاستعداد لاتخاذ تدابير نوعية على مستوى مسئولية «الداخل» مع تذكير «الخارج» بأنه يتحمل بدوره الكثير من تلك التداعيات التي وصلت إليها أزمة العلاقات بين الغرب والإسلام

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1193 - الأحد 11 ديسمبر 2005م الموافق 10 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً