لا أخفي عليكم ان التسامر مع الفنانين التشكيليين وغيرهم له مذاق خاص ونكهة شاعرية وانسانية تختلف عن اي نكهة أخرى. ولعلهم يكونون هم ضمن الغرباء في هذا العالم لان الناس لا تفهمهم ولا تقدر مضامين رسائلهم لأنها تبحث عمن يدجن عليها ويفغر فاهها بالهواء وان كانت النهاية انتفاخ بطن لقلة وجود ارغفة فيه. الانسان لابد ان ينتقي اصدقاء يفهمون افقه، يقرأون الحياة فلسفة امكان لا بيع دلاء أوهام واساطير وشعارات ديماغوجية. عندما اجلس مع رسام موهوب أو شاعر انساني يفهم الحياة بلغة شعر رومانسية طاعنة في الواقعية اشعر ببزوغ امل من ثقب الجاهلية المتفشية في عقول من يفكرون بوعي معكوس. جلست مع فنانين كثر يشكون هذا الواقع العربي المتخلف وقبل يوم سهرت مع فنان امسية جميلة فشكى لي عدم تقبل الناس لابداعاته وانهم يرمونه بالحجارة فقلت له الناس تكره الابداع وعليك ان أردت رسم لوحة ألا تبحث عن رضا السلطة ولا تصفيق الجماهير فالجمهور الالماني كان يصفق لهتلر الغبي على رغم انه كان يقودهم الى المسلخ وهم يبتسمون لانه كان يعيشهم أوهاما لم يكتشفوا خطأها الا بعد ان اكلت الحرب منهم ملايين البشروطحنت أولادهم وخسروا مصالحهم وضاع مستقبلهم بعد ذلك فهموا ان هتلر قائد غبي قادهم للموت. وقديما قيل: الشجاعة اذا اقترنت بالجهل لا تغني شيئا. والمثل الانجليزي يقول: ليس هناك اشجع من الحصان الاعمى هو حصان وشجاع ولكن ما الفائدة وهو أعمى فربما يطأ بحوافره ابناءه وهو لا يعلم. حتى نحن العرب لا نستفيد من آلامنا وأخطائنا وكل جيل يسلم اخطاءه السياسية الى الجيل الآخر، نسلمها لابنائنا جيلا بعد جيل ولا يوجد فينا من يمتلك جرأة النقد ليقول: لماذا لا نعيد قراءة اخطائنا ونعيد حساباتنا؟والاجيال العربية تسمى بأجيال المحارق والاوهام. ذكرت له ما كان يردده نزار قباني ذات يوم اذ كان يقول: "انا عندما اكتب لا أحاول ان استرضي احدا فنحن في عالم عربي مطحون بتناقضاته وعقده. انا لا استطيع ان ارضي الجميع... هذا مستحيل ونحن فينا السلفي والرجعي والشعوبي والعلماني وما إليه. إذا كيف ستسلك القصيدة الى سبيلها في كل هذه الزواريب؟ هذا صعب ومن حسن حظي ان قصيدتي هي القصيدة الفضيحة. فلو انني حاولت ان اداري هذا المجتمع المتخلف لما رماني احد بحجر... ولكنني أعود فأكتشف ان الذي كونني في النهاية هو هذه الحجارة فهي ضربت نحوي الى ان جعلت مني تمثالا. ولانني اعتبرت الشعر وسيلة للتفجير والتكسير والتغيير. من دون ذلك لا شعر واذا ما قبلت بمجتمعي بعاهاته وخرافاته وقناعاته القديمة لا اكون قد فعلت شيئا على الاطلاق" قلت لفناننا: يجب ان ننقل هذا العالم الى الهواء الطلق، الى الحياة لا ان يصبح كالماعز يضع عقله في ثلاجات الحزب أو الحكومة أو المثقف المسكين. يقول نزار: وهكذا يا سادتي الكرام أدور كالحبة في مسبحة الامام لاعقل لا راس لا اقدام. الذي اعلمه ان الله خلقنا بشرا لنا عقول نفكر بها وغدا يحاسبنا الله منفردين فرادى لا مجتمعين محتشدين يأخدنا السياق الجمعي. خلقنا بشرا لنا كرامة وعقول والامام علي يقول: لا يأبى الكرامة الا حمار والحكومة إذا أخذت كرامة الناس حولتهم الى حمير ورجل الدين والمثقف والمهندس والصحافة والخ إذا أخذوا كرامة الناس ووضعوها في ثلاجاتهم جعلوهم حميرا وهكذا هي العملية والدكتاتورية موزعة بيننا وكل يدعي انه افهم واخلص واحد. ليس فقط اميركا تقول من لم يكن معي فهو ضدي كلنا نقول ونمارس العبارة نفسها حكومات واحزاب ومؤسسات ومجتمعات. اقول: لم يخلقنا حميرا أو بغالا مربوطين في عباءة أحد يفكر عنا بالوكالة ويتم اختزال كل المجتمع في الالهة الجديدة البشرية ايا يكن شكلها تريد استعباد الناس لنتحول الى غنم ليس لنا النقد أو النقاش أو حتى المساءلة على رغم ان أي خطأ سينعكس على الجميع. قلت لصاحبي لا تأسف لهؤلاء المخصيين فكرا والمعوقين وعيا وانظر لما جرى للمبدعين في هذا الزمان. مثلا السيد فضل الله ملأ لبنان مبرات خيرية للأيتام وجمعيات ومعاهد للمعوقين ومراكز صحية ومستشفى ضخما "مستشفى بهمن" وعشرات من التأليفات التي اثرت الساحة الاسلامية وعشرات المساجد والى الآن يلقي عليه الشباب الصغار المتفقهون الحجارة حتى امرضوه هم والزمن. ومتى سيعرفون قيمة هذا السيد المظلوم؟ عندما يفقدونه. غدا ستقام الفواتح وتلقى القصائد وتوزع البوسترات الكاذبة وتلقى الخطب العصماء في زهد الرجل وتقواه الخ نحن قوم لا نقدر عظماءنا وفقهاءنا الكبار الا اذا فقدناهم. والسؤال: ماذا قدموا هم للبشرية؟ فكرا؟ مؤسسة؟ رجالا؟ والموقف ذاته مورس ضد السيد محسن الأمين وموسى الصدر وعلي شريعتي هذا العملاق الذي صلبوه على اعواد مشانق الشتيمة في حياته ومماته. انظروا ماذا قال الشهيد بهشتي في حق شريعتي من كلام جميل؟ ماذا فعلوا في الشهيد مطهري عندما قال رأيه بصراحة في كتبه الرائعة "الملحمة الحسينية". متى نعلم الناس على احترام الآراء وعلى التسامح وقبول الرأي والرأي الآخر؟ قلت لفناني النديم: لاعليك ارسم لوحتك وامش لا تمنح احدا اذنك. إذا ظلمك قومك فكر على المستوى العالمي. دع المجد والشهرة للحمقى واذهب انت بالعظمى كما يقول خالد محمد خالد المفكر المصري. لاعليك احمل قومك على كتفيك للغايات السماوية وان جرحوا عنقك وان لعبوا الورق على قبرك غدا فما أنصف نبي بين قومه. عندما أريد أن اتسلى اعيد قراءة كتابين مهمين "النباهة والاستحمار" لعلي شريعتي وكتاب "زمن الحمير" لمحمود السعدني. غدا يوزعون البوسترات لفضل الله والعقاد وشريعتي وعقبال العالمية يا عرب. كل يدجن حسب طريقته وان لم يعدم المخلصون في عالمنا. كاتب يصف الناس بالكلاب في تعميم سافر! والسؤال هل هذه وطنية أم هي الاخرى جزء من السفه اليومي لطبول لا تفقه شيئا.
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 1192 - السبت 10 ديسمبر 2005م الموافق 09 ذي القعدة 1426هـ