العدد 1191 - الجمعة 09 ديسمبر 2005م الموافق 08 ذي القعدة 1426هـ

اسماعيل عبدعلي وغنائية تحاول القفز على واقع نقيض

ملف خاص بتجربة الشاعر إسماعيل عبدعلي - الملف الشهري السادس

للشاعر الكبير محمود درويش كلمة مفادها «القضايا الكبرى قد تخلق وقد لا تخلق شاعراً كبيراً، لكنها تظل قضايا كبرى. والقضايا المقدّسة لا تشكل حصانة جمالية لفن يتسلقها كالملصق والشعار».

أنطلق من كلمة درويش، كمدخل أول لتناول تجربة الشاعر البحريني المتميز إسماعيل عبدعلي، ضمن مشروع الملف الشهري السادس، والذي دأبت «الوسط» على الاشتغال عليه. ما يجب الالتفات إليه قبل الدخول في تناول التجربة، هو أن الشاعر عبدعلي يعد واحداً من أكثر الشعراء العاميين إنتاجاً في التجربة البحرينية من حيث المجموعات الشعرية التي أصدرها وهي كالآتي: «شراع الأمل»، مواويل وقصائد عامية، 1980، «دموع الشوق»، قصائد شعبية، 1986، «شموع ودموع»، فصيح وعامي، 1991، «رحلة ألم» قصائد عامية، 1995، «نبضات قروية»، مواويل وأبوذيات، ديوان مشترك، 1997، «الملح وجراحي»، قصائد عامية، 2002، إضافة إلى «شجون»، شعر فصيح 1999.

أول ما يلفت في تجربة الشاعر إسماعيل عبدعلي، تلك الغنائية المباشرة التي لا يمكن لها أن تستعصي على الإمساك بها، وهي غنائية تكاد تلازم جلّ تجاربه التي تضمنت مجموعاته الشعرية، وهي غنائية يمكن ربطها بالمسار المكاني للشاعر وتفصيلاته، وهو مسار له ما يدل عليه في طبيعة الحرمان والبؤس والفقر، ما يجعل تلك الغنائية مرادفاً حقيقياً ولازماً بل وضرورياً لمجاراة كل ذلك، ومحاولة القفز عليه، أو على أقل تقدير، التحايل عليه.

تتخذ الغنائية في الكثير من نصوص عبدعلي مفصلاً مهماً هو بمثابة النافذة العملاقة التي يطل من خلالها على النقيض من تلك الصور والواقع المزري الذي عرفت به جل قرى وأرياف البحرين، لما طالها من إهمال من جهة، والإمعان في تهميشها من جهة أخرى.

الاشتغال على ملامح وصور البيئة

لا بد من مقدمة للدخول في واحد من ملامح وصور التجربة الشعرية لدى إسماعيل عبدعلي.

يمثل الحب في البيئات القاسية مساحة تعويضية للقفز بها على تلك البيئات، ومحاولة التأقلم مع شراستها، كون الحب يعمل عمله في ترويض النافر، وكبح الهائج، أو الفائض مما تصبه تلك البيئات من قسوة تكاد تتجاوز في كثير من الأحيان تحمّل الجنس البشري لها.

مع مجيء الإسلام، أصبح تعميق تلك القيمة وتأكيدها، واحداً من العلامات، أو المضامين السمحة التي يتمتع بها، وأصبح الانتقال به من مساحة الفردي/ الخاص، إلى مساحة الجمعي/ العام، في توجه لخلق مجتمعات قادرة بتضامن قوى الحب لديها على تجاوز أكثر من شراسة ستظل كامنة لها في مفترق طرق التحولات التي كان ينشدها الدين الجديد ويتحراها في سبيل الانتقال به من دار الهجرة بمحدوديتها، إلى اعتبار العالم بأسره داراً عالمية يجب أن يتحرك فيها وتكون نصب عينيه.

صار إدخال تلك القيمة الإنسانية الكبرى ضمن وعاء تعبيري حاضر وأول مقتصراً على الشعر وحده، اذا ما استثنينا تجربة يتيمة رصدت تلك الحالة انفعالاً وتأثيراً، تتركز في «طوق الحمام» لابن حزم الأندلسي الظاهري، ويمكن القول إن ثمة شحاً في أشكال التعبير منح الشعر تسيده وهيمنته على رصد تلك الحالة. إلا أن الملاحظ، وربما المتفق عليه، أن الشعر ظل ولسنوات أسير مضامين مكررة، ويتم إعادة إنتاجها في صور لا تخلو من ركاكة وسذاجة.

ضمن تجربة الشاعر المتميز عبدعلي، لم تكن البيئة بمعزل عن إمكانات وطاقات المتخيل لديه، على رغم أنه لصيق بكل تفاصيلها وملامحها، بل يمكن القول إن التصاقه بها مرده بالدرجة الأولى إلى انحيازه البيّن إلى الغنائية القادرة على كشف المضمر والمسكوت عنه في ثنايا تلك البيئة، وهو مضمر ومسكوت حتمته طبيعة مناخات عامة، ربما أهمها وأكثرها إلحاحاً وحضوراً، المناخ السياسي بكل تبعاته واستحقاقاته، ما يدفع الشاعر في كثير من الأحيان إلى التمترس وراء الغنائية من جهة، مع قدرة فذة على التحايل والقفز على عدد من المحرمات والتابوهات، التي ربما لا تتيحها طبيعة المناخ المشار إليه آنفا.

إن الاتكاء على الغنائية لتمرير موضوعات من خلال رموز عرفت بها الأرض أو القرية ­ الكون الخاص ­ للشاعر، تتيح للشاعر القدرة على تفجير وإطلاق عنان الكثير من إمكاناته اللغوية والتخيلية، وتدفعه إلى اجتراح صور تبدو مباشرة في الكثير منها، إلا أنها تظل محتفظة بغناها على مستوى الدلالات التي يحاول تمريرها بين نص وآخر.

المُتخيّل بين الخاص والجمعي

ظل المُتخيّل (حديثاً) من ذلك الحب بانتقاله من حال خاصة إلى حال عامة، أكثر قدرة على خلق تواصل حقيقي بما يشبه الظاهرة معه، ونزار قباني يظل الظاهرة الحديثة الأبرز في هذا الخصوص، فيما يظل عمر بن أبي ربيعة، النموذج القديم الذي لايزال حاضراً في الاشتغال على الحب كموضوعة ضمن مساحة المتخيل. بينما يظل «المجنون»، قيس بن الملوّح، مشدوداً بحكم الذاكرة الشعبية، والخيال الشعبي، إلى مساحة هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة، وهو ما يجعله الشاعر الوحيد في التاريخ الشعري العربي الذي لم يحتج إلى الإمعان في الدخول في مساحة المُتخيّل كي يبدو شعره أكثر صدقاً ومقدرة على خلق التواصل الذي أشرنا إليه سابقاً، بقدر ما أن الخيال الجمعي/ الشعبي الذي تدخّل في بعض مسار قصص «المجنون»، أسهم إسهاماً كبيراً في تراكم وتعميق حال من التواصل مع الاثنين (ابن الملوّح وشعره) في التاريخ الشعري الوجداني العربي، قديمه وحديثه.

اليوم، نحن إزاء أكثر من إشكال تعاني منه المضامين الشعرية العربية، بمحاولة إعادة إنتاج ما سبق، وفي صور لا تخلو من سذاجتها وركاكتها، فبعد أن كان الحب هو الموضوعة الرئيسة في مجمل تلك المضامين، على رغم شح الأشكال الأخرى ­ باستثناء الشعر ­ وعجزها عن الخروج بمضامين جديدة تتوخى المتفرّد في النظر والمعالجة، والعميق من المضامين، والمتعدد منها، وهو تماماً ما أشار إليه الشاعر الكبير محمود درويش في كلمة له على هامش حفل توقيع مجموعته الشعرية الجديدة «كزهر اللوز أو أبعد»، في العاصمة الأردنية (عمّان)، يوم الخميس قبل الماضي، إذ يقول: «من العبث أن يعيد الشاعر قول ما قاله، وبالأسلوبية ذاتها، مئات المرات. فاللغة هي أيضاً عرضة للشيخوخة المبكرة. وإذا كان للشاعر من مهمة تجاه لغته، بالإضافة إلى مهامه الأخرى، فهي إعادة الحيوية والفتوّة إلى الكلمات كلما أصابها الإرهاق، وإنعاشها بالدهشة كلما وقعت في العادي والرمادي. (إن الشاعر هو وسيلة وجود اللغة)».

أصبح النزوع إلى السياسي المباشر في الكثير من مضامين الأشكال التعبيرية المتاحة، وذلك بحكم تحولات وتغيرات طرأت على الحياة العامة العربية، وبحكم انتقال العرب من طور الهيمنة إلى طور الدخول في حال من صراع ومواجهة مع أشكال الهيمنة الجديدة التي تحاول المساس بوجودهم وهويتهم ودورهم في حركة الحياة.

لا تنفصل موضوعة الحب في تجربة شاعرنا من حيث تلمس رؤيتها المغايرة عن بقية الموضوعات الأخرى، إلا أن ما يميزه عن مجايليه أو الذين أتوا بعده، هو القدرة على إتاحة فضاء لما قبل صوغ التجربة، ما يجعلها ناضجة، شبه مكتملة، ماهراً إياها ببصمته أو لمسته الخاصة التي تحمل تكنيكه في الاشتغال، وهو تكنيك لا يقصد به تلمس وصفات محددة في تركيبة وبنية النص، وما يرتبط به من مضامين، بقدر ما يقصد به المداخل المؤدية إليه مع استواء نفسي معين يتيح له رؤية ونظراً آخر قد لا يتوافر لغيره، ما يجعله ­ وبامتياز ­ صاحب موهبة لا تتعجل النتيجة والأثر، بقدر ما تتأنى في الطريق لإنجازهما.

البيئات وأثرها على الأشكال التعبيرية

مع انتقال العرب من بيئات البداوة إلى الحواضر، رافق ذلك الانتقال تحول وانتقال آخران طالا البنى الثقافية، واللغة في الصميم من تلك البنى، وخصوصاً مع تعدّد اللهجات، وتباين مستويات الحياة، وبواعث الاستقرار في تلك البيئات، ما نشأ عنها أشكال تعبيرية طالت اللغة في المقام الأول، من حيث الانتقال بتلك الأشكال أيضاً من مرحلة الصرامة في الشكل، تبعاً لصرامة البيئة التي نتجت عنها، إلى مرحلة بات معها من الضروري أن تتوافق فيها وتتصالح مع البيئات العربية الجديدة، من دون أن تفقد تلك الأشكال، السمات الرئيسة التي تنظم ملامحها، وخصوصاً الشعر، من اعتماد الصدر والعجز والقافية، مروراً بمحاكاة المشروعات الشعرية الجديدة التي بدأت ملامحها تتبلور في صورتها الأولية في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي على يد كل من نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، وحسين مردان، وغيرهم، باعتماد التفعيلة والتخفيف من وطأة وهيمنة القافية ضمن قانونها القديم، فنشأت محاولات ­ على استحياء ­ في الشعر العامي الحديث في مصر وبلاد الشام، وبعض من بادية المغرب العربي، ولم تكن الجزيرة العربية بمنأى عن تلك المحاولات. وهنا هذه المرة أيضاً، لم يكن الحب بمنأى عن سيطرته على الشكل والمشهد الشعري الجديد، وإن جاء في بعض من نماذجه كلاماً عادياً، يكاد يكون أقرب إلى الصنعة منه إلى الشعر.

لم يربك ارتباط الشاعر إسماعيل عبدعلي بأمكنة ذات خصائص وسمات مختلفة، تجربته التي ظلت وفية للمكان الأول، إذ راح يمتح منه، ويراكم المزيد من تجربته ورؤيته للحياة ومضامينها وللناس ومعادنهم، وللقضايا الكبرى وما يرتبط بها، إلا أنه ظل وفياً للأشكال المتحركة والمتحولة التي تتيح له مساحة أكبر من التحرك، بعيداً عن النمطية المعهودة في الأشكال التقليدية من الشعر، وظل وفياً لحركة التطور التي انتابت هذا الفن

العدد 1191 - الجمعة 09 ديسمبر 2005م الموافق 08 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً