«ويشترط لصحة خيار الصغيرة البكر أن تختار نفسها بمجرد البلوغ، فلو رأت دم الحيض مثلاً ثم سكتت بطل خيارها، بل ينبغي لها أن تقول فوراً: اخترت نفسي ونقضت النكاح. وبذلك لا يبطل حقها بالتأخير، ومثل ذلك ما إذا كانت جاهلة بالنكاح ثم بلغها الخبر، فإنه يلزمها أن تقول فوراً: لا أرضى أو فسخت النكاح، إلاّ لضرورة كأن يأخذها العطاس أو السعال فقالت بعد انتهائه... الخ». هذا، وإذا رأت الصغيرة الدم في جوف الليل، إذ لا يمكنها إحضار الشهود، فإن عليها أن تختار نفسها فوراً وتفسخ العقد ثم تشهد بمجرد طلوع النهار، ولكنها لا تصرح بأنها رأت الدم ليلاً، بل تقول لهم: اشهدوا بأنني بمجرد أن بلغت فسخت العقد، أو تقول: اشهدوا بأنني بالغة الآن وقد فسخت العقد بمجرد البلوغ، ولا تقول: إنني بلغت ليلاً، إذ لو قالت ذلك بطل اختيارها. ولا يخفى أن هذه حال ضرورة»، (كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، لمؤلفه عبدالرحمن بن محمد عوض الجزيري، 18821941م، كان من أعضاء هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف). يبدو أن موضوع تزويج الصغيرة وإن لم تبلغ، ليس مقتصراً على الشيعة فقط، وأنه ليس موضوعاً خاصاً بالفتاوى الصادرة عن فقهائهم، بل هو موضوع مطروح حتى لدى فقهاء المذاهب الأربعة. على العموم، أردت بالرأي الفقهي أعلاه أن أقول: إنه يتوجب على الإنسان أن يُفعل عقله، وأن يدع المجال لعقله ليتمعن ويناقش من دون خوف أو وجل. هذا لا يعني أننا نخاف من مثل هذه الآراء وهذه الفتاوى، لأن الواقع قد تجاوزها ويخالفها. أعتقد أن الكثيرين منا هم شديدو الانفعال في تحديد مواقفهم، وكثيراً ما يتخذ الفرد منا موقفه في عجالة وانفعال من دون تحكيم للعقل، ودونما أسئلة يثيرها مع نفسه ومع الآخر بحثاً عن الحقيقة. الكثيرون منا ينساقون مع الرمز السياسي، يأخذون ما يقوله الرمز على أنه الحقيقة المنزلة، وآخرون ينساقون مع قدسية رجال الدين من دون قبول لإعمال العقل، إذ تعودوا على تقديس ما يقوله رجال الدين بعيداً عن العقل، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار أن النص الذي جاء في ظروف مختلفة تماماً عن العصر الحاضر قد لا يكون مناسباً لهذا العصر، أو على أقل تقدير لا يرون أنه تتوجب إعادة قراءة النص لاستنباط أحكام تناسب العصر الحاضر. إنهم يرون أن النص وكما هو لابد أن يكون صالحاً الآن ولا مجال للمناقشة والتطوير. ألم يعطل الخليفة عمر بن الخطاب (رض) حدّ السرقة في عام الرمادة؟ لقد أثار موضوع قانون الأسرة في المجتمع الكثير من الشدّ والجذب، وتم تناوله والحشد ضد من يرى وجوب صدور قانون ينظم أحوال الأسرة، تم حشد الناس تحت شعار حماية الدين وحماية خصوصية المذهب، ونحن لدينا حساسية مفرطة عندما يقال لنا إن المذهب في خطر، وكأن وجود قانون ينظم جانباً مهماً من حياتنا هو تهديد للدين وتهديد لخصوصية المذهب. في وقت سابق، كتبت مقالاً أثار لدى البعض حفيظة مرجعها بحسب اعتقادي، عدم القبول بإعطاء العقل مساحة من التفكير. هذا البعض يتخذ ذريعة بأن ما يفتى به من رجال الدين أمر مقدس لا يجوز البتة مناقشته، وعلى الآخرين أخذه أمراً مسلماً لا يمكن الجدال فيه، ولا يحقّ للإنسان أن يخاطب عقله ويسأله للوصول إلى قناعة يستطيع الدفاع عنها. أليس لنا أن نتساءل: هل كل ما كان سائداً ومقبولاً قبل 10 قرون أو حتى قبل نصف قرن يمكن القبول به في العصر الراهن؟ هل يمكنني اليوم أن أنشر فتوى في محتواها تجيز للإنسان أن يستعبد إنساناً آخر؟ هل يجوز للفقيه اليوم أن يقول بفتوى محتواها أنه لا يجوز للعبد أن يتزوج إلا بموافقة سيده، وعندما ينجب هذا العبد يكون المولود تلقائياً عبداً مملوكاً لذلك السيد؟ أعتقد أن العقل يقول إنه لا مكان لهذه الفتوى، وأن الرد على هكذا مسألة بأن أقول إنه لا يجوز لإنسان أن يستعبد إنساناً آخر. لماذا أعطانا الله نعمة العقل؟ بالتأكيد أعطانا سبحانه وتعالى هذه النعمة كي نستخدمها. كيف نفكر بواسطة هذا العقل؟ ليس المطلوب منا أن نستخدمه في علوم الرياضيات والطب والعلوم الأخرى فحسب. يبدو أننا حتى في هذه المجالات تخلفنا تحت إرهاب الحلال والحرام، بل كي نستخدمه في جميع مناحي حياتنا وفي مقدمتها المجالات التي تنظم تلك الحياة. القرآن ونصوص السنة وأقوال السلف لا تشكّل مواد قانونية محددة وواضحة يمكن الأخذ بها مباشرة، لابد من تفريغها في نصوص قانونية، يفهمها ويستوعبها القضاة والمحامون وعموم الناس. لقد اختلف المسلمون حتى في فهم النصوص القرآنية، كما اختلفوا بشدة بشأن الأحاديث المنسوبة للرسول الأعظم محمد (ص). ألم يختلف المسلمون في توريث الزوجة؟ ألم يختلفوا في توريث البنات اللاتي ليس لهن أخ؟ كل ذلك يعني أن كل فريق فهم النص بشكل يختلف عن فهم الآخر له. هل المطلوب من المسلمين أن يفهموا النص كما كان قبل مئات السنين؟ الإسلام على سبيل المثال لا الحصر، لم يلغِ الرقّ، ولكن العقل يقول إن الإسلام في جوهره يحرّم الرق. أليس من حق الإنسان أن يستخدم وأن يفعّل عقله حتى يصل إلى الحقيقة؟ هل المطلوب منا أن نأخذ بكل ما هو معاصر في حياتنا المادية، وفي الوقت نفسه يظل تفكيرنا مشدوداً ومربوطاً بالماضي؟ للأسف هذا هو ما نفعله ونقوم به، لذلك فإننا نعيش تناقضاً، هل الأحكام والفتاوى الدينية التي تم الإفتاء بها قبل 15 قرناً قابلة للأخذ بها كما هي في العصر الراهن؟ ألا نحتاج إلى تجديد واستنباط أحكام وفتاوى تناسب حياتنا المعاصرة؟ هذه الفتوى أو تلك قد تكونان صالحتين في الواقع الزماني والمكاني الذي صدرتا فيه، ولكنهما قد تكونان بالقطع ليستا صالحتين في واقع زماني ومكاني آخر. هل المطلوب احتكار النص الديني من قبل سلطة الفقهاء فقط؟ ألا يحق للإنسان المسلم أو حتى غير المسلم أن يكون له رأي في النص؟ إن هذا المنع إن وجد يعني محاولة لتجريد الإنسان من منحة عظيمة منحها الخالق له ألا وهي نعمة العقل والتفكير. أليس المطلوب إعادة قراءة النص الديني وما صدر من فتاوى بما يتماشى مع الواقع الإنساني المعاش، قراءة للنص الديني من واقع المعرفة والعلوم غير المتناهية، إضافة إلى التطورات الاقتصادية والاجتماعية غير المحدودة. إن الواقع المعاش قد ألغى مؤسسة الرق كما ألغى ملك اليمين من دون أن يستطيع أحد من المسلمين الاعتراض. نظرياً، إن الرق جائز وغير محرم، ولكن هل يمكن القيام بذلك عملياً؟ هذا يعني أن القبول النظري يناقض الواقع العملي، هل من المقبول أن يبقى الناس في المملكة العربية السعودية أسرى لفتوى تحرّم على المرأة قيادة السيارة، وكأن المرأة المسلمة في المملكة العربية السعودية غير المرأة المسلمة في جارتها مملكة البحرين التي تقع على مسافة كيلومترات قليلة منها، أليست هذه أضحوكة؟ ما هي البلاد الإسلامية التي تطبق حد السرقة؟ أعتقد أن البلد الإسلامي الوحيد الذي يطبق هذا الحد هو المملكة العربية السعودية. بالتأكيد إن الواقع المعاش سيفرض عليها في النهاية مثلها مثل بقية البلاد الإسلامية وقف هذا الحكم. للأسف، تقطع يد من يسرق عنزة، ويسجن من يسرق دنانير، ولكن ربما لا تقطع يد أو حتى يسجن من يسرق ملايين، ما كتبته من رأي في وقت سابق، قد أكون صائباً فيه أو في بعضه وقد أكون مخطئاً فيه كله بحسب رؤية بعض الإخوة. أحيي وأشكر كل من خالفني الرأي قبل من وافقني وشاركني الرأي، ولكن باحترام من دون سب وشتم وتجريح، مثلما يجري لدينا على بعض المواقع الإلكترونية، أو ما وجدته من سلوك لدى بعض الإخوة الأعزاء الذين أصبحت وجوههم مكفهرة عندما يقابلونني، فحتى ردّهم على السلام أصبح باهتاً، يذكرونني بكيفية تعامل البعض مع الجماعة الذين يسمون بجماعة «السفارة». وأشكر الأخ عباس هاشم الذي كتب رأياً في المقال يخالف ما قلته، وليسمح لي بالمناسبة أنني لا أقبل رأياً يتوصل فيه صاحبه إلى أن بعض المذاهب تجيز الدخول بالطفلة حتى قبل التاسعة، كما لو كانت سمينة مثلاً، فالسمنة ليست مقياساً يجعلني أن أقبل بتزويج الطفلة. أما قوله إن فتوى الإمام الخميني لم تؤثر بـ «الأحوال» الإيراني، وإنني أعتقد أن ذلك يعود إلى أن الفتوى تخالف الواقع وتخالف المقبول عقلاً. فلو جاء رجل بطفلته الرضيعة وطلب أن يعقد على طفلته من رجل يجوز له أن يداعبها ويلامسها، بالتأكيد، إنه لن يجد رجل دين يقبل بأن يجري له مراسم العقد، ولن يجد قانوناً للأحوال الشخصية يجيز له مثل ذلك، وهذا يعني ان هذه الفتوى تخالف الواقع. كما أشكر الأخ عدنان زرزور، الذي كتب معلقاً على ذلك المقال واتفق معي فيما ذهبت إليه، وأشكر الأخ حسن الحداد الذي كتب معلقاً على ما كتبه عدنان زرزور، ولكن ليسمح لي أن اختلف معه دون حاجة إلى البحث عن مصادر فقهية تؤيد رأيي أو آي من القرآن الكريم أو الحديث الشريف لكي أثبت صحة وجهة نظري، وهي وجهة نظر الكاتب زرزور في تحديد سن الزواج سواء للذكر أو الأنثى أو حتى لفارق بينهما حين العقد، لأنه حتى لو وجدت نصوص وفتاوى تجيز تزويج الصغيرة والصغير من قبل وليهما حتى وإن لم يبلغا، فإنني أقول ان الواقع قد تجاوز مثل هذه النصوص وهذه الفتاوى. بالتأكيد، إن جميع قوانين الأحوال الشخصية في البلاد الإسلامية قد تجاوزت مثل هذه النصوص، وكذلك القانون الذي سيكون لدينا والمزمع له أن يرى النور، سيتجاوز مثل هذه النصوص ومثل هذه الفتاوى. ولا أعتقد أن هناك عاقلاً سيخالف ذلك. يا ترى ألا يتوجب أن يكون للعقل من مكان
العدد 1191 - الجمعة 09 ديسمبر 2005م الموافق 08 ذي القعدة 1426هـ