جزءٌ من مشكلة الصراع العربي الصهيوني أنّه تحوّل إلى شَكّ. الموضوع في ذلك مُركّب ومُتشابك لكنه غير عصيّ على أن يُقرأ. وربما كان ذلك التحدّي الذي يواجه الأنظمة العربية، وهو أن سواد العالم العربي مازال قادرا على أن يقرأ.
أعود إلى أصل المشكلة وهو لازمة الشّك في الصراع. الأمر لا يحتاج إلى مزيد من الإدراك بقدر ما يحتاج إلى قليل من الهدوء. فقد تتزاحم الأحداث والنتائج فتخلق واقعا مُرتبكا لا يَقْدِر أحد على التفكير بشأنه.
لذا فإن فرض الذاكرة الخالية من الحوادث يعطي نتائج أفيد وغير مُشتّتة. وخصوصا أن استحضار الذاكرة وتوجيه زواياها بشكل صحيح، ومن ثمّ إشراكها في واقع الحال يُقرّب المشهد بصورة أكثر دقّة.
ماذا تقول الذاكرة. هي تقول: إن شعب كان آمنا في أرضه اقتُلِعَ ورُمي في الشتات، ليُؤتى بأناس عبارة عن موزاييك عرقي من مائة وأربعين دولة ليستوطنوا الأرض التي تمّ إخلاؤها عنوة من أصحابها!
تزامن ذلك الإخلاء مع قيام هذا الموزاييك البشري بمذابح في حقّ الفلسطينيين في الكرمل والكابري وطيرة بني صعب وصبّارين وقاقون وصفد وكفر سابا وكفر قرع وبيسان ومشمار هعيمق ودير ياسين. والنتيجة مئات الآلاف من القتلى ومثيلهم من الجرحى.
ثم بعد تلك الدراما كلّها يُطلب من أصحاب الأرض الأصليين أن يعترفوا بواقع الحال قبل أن يتمّ التفاوض معهم لإعطائهم ما تيسّر من أرض. هنا فقط نسأل: كيف يستقيم ذلك المنطق من أيّ أحد كان. نعم... هذا ما بقي من سؤال مشروع بات طرحه (وللأسف) محلّ تهكّم واتهام لقائليه بالمزايدة.
لقد حارب العرب الكيان الصهيوني منذ العام 1948 حتى العام 1973 (مدة 25 عاما) وفشلوا في ذلك لكنهم أوقعوا فيه 22570 ألف قتيل. ثم هادنوه منذ العام 1978 ولغاية الآن (مدة 31 عاما) وفشلوا ولم يُؤلموه ولو بصفعة.
قدّموا له 12 مبادرة للسلام لم يجنوا منها سوى بقاء احتلال الجولان والشريط الحدودي في لبنان لغاية العام 2000 ورجوع سيناء منقوصة السيادة ومشروطة، وضرب المفاعل النووي العراقي في العام 1981 واحتلال بيروت في العام 1982 وضرب لبنان في العام 1993 و1996 و2006 وجرائم أخرى أكثر فظاعة في الضفة الغربية وقطاع غزّة خلال الانتفاضتين الأولى والثانية وعمليات التصفية للناشطين.
آخر المبادرات العربية قدّمها العرب في قمّة بيروت في العام 2002 فردّ الكيان الصهيوني بعملية السور الواقي واقتحام مخيم جنين وارتكاب فضائع. ثم استمرّ إلحاح العرب على هذه المبادرة (رغم ذلك) حتى جاءت حرب تمّوز وقُتِل 1200 لبناني على يد الجيش الصهيوني.
وبالرغم من ذلك استمرّ العرب في إلحاحهم عليها (المبادرة) فجاء العدوان الصهيوني على غزّة نهاية العام الماضي ومطلع العام الجاري وقُتل 1334 فلسطينيا وآلاف الجرحى و600 ألف طن من الركام.
بل زاد العرب على ذلك بأنهم أصرّوا على أن لا يُضمّنوا المبادرة وقتا زمنيا لكي لا تأزف فتُفسّر تل أبيب ذلك بأنه إنذار لها فتتعقّد الأمور، وتبور المبادرة وينحاز الأميركي من جديد إلى الخيارات الصهيونية.
ثم عضّ العرب على الجراح مرة رابعة واستمرّوا في إلحاحهم على هذه المبادرة فدشّن الكيان الصهيوني شرطه بضرورة اعتراف الفلسطينيون بيهودية الدولة الصهيونية، الأمر الذي يعني إخراج مليون ونصف المليون من عرب الخط الأخضر، وإنهاء موضوع اللاجئين، للمحافظة على نقاوة الديمغرافيا الصهيونية. لكن المبادرة مازالت قائمة!
هنا أنا لا أريد أن أتعصّب ضد السلام ولكنني أريد أن أفهم، لماذا يُصرّ العرب على التمسّك بالمبادرة العربية من دون رؤية موضوعية لمدياتها وأصولها وأوراقها وظروفها ونهاياتها، وهم يرون الرسائل الصهيونية تُبعَث لهم من دون دبلوماسية تُذكر.
آخرها ما تصريح وزير الدفاع الصهيوني إيهود باراك عندما قال «نحن الدولة الأقوى في الشرق الأوسط وعلى مسافة 1500 كلم حول القدس، أثبتنا ذلك في العامين الأخيرين، في الشمال (العدوان على لبنان) وفي الجنوب (العدوان على غزة) وفي أماكن أخرى». وهي رسالة مفادها أن تل أبيب قامت بعمليات إرهابية غير مُعلنة، ليس آخرها ضرب العُمق السوداني بحجّة تدمير موكب أسلحة كان سيتم تهريبه إلى غزّة.
إذا... ماذا أنتَج العرب اليوم من تمسّكهم بمبادرة السلام العربية؟ عفوا... السؤال يجب أن يكون بشكل آخر لاستحالة النتيجة. ماذا أنتَج الكيان الصهيوني اليوم من تمسّك العرب بمبادرة السلام؟
الجواب سهل. ربط المبادرة العربية بخريطة الطريق التي تنصّ على ترتيبات أمنية ضرورية في المنطقة عبر القضاء على الحركات الإرهابية (المقاومة). وهو أقصى ما تريده تل أبيب. فلا شيء يُرعب من يد هي أصلا مرعوبة ومرتعشة.
اليوم يأسف الشعب العربي من إصرار قادته على شطحاتهم. آخرها وقوفهم إلى جانب الإدارة الأميركية والحكومة الصهيونية في دعوة حماس للاعتراف بحقّ الكيان الصهيوني في الوجود، أو ما يُسمّى بشروط الرباعية الدولية.
هم يعلمون أن هذا الطلب غير واقعي. لأنهم لم يُفكّكوا مفهوم الاعتراف ومداه. هل الاعتراف بما لدى الكيان الصهيوني من أراضٍ مقضومة؟ أم بالمستوطنات المُسيّجة للضفة الغربية؟! أم الاعتراف بيهودية الكيان وإخراج عرب الداخل؟! أم بتأبيد القدس عاصمة لذلك الكيان؟!
هذه إشكالات يجب أن تُفهم. من دون أن يتّهم أحدٌ أحدا بالمزايدة أو المتاجرة بالدماء. لأن المتاجرة قد تأخذ أبعادا أكبر حين تتعلّق بالخيارات التاريخية والمحافظة على الأرض وحقوق 6 ملايين فلسطيني يعيشون في الشتات.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2432 - الأحد 03 مايو 2009م الموافق 08 جمادى الأولى 1430هـ