«العقول العظيمة تناقش الأفكار، العقول المتوسطة تناقش الحوادث، العقول الصغيرة تتحدث عن الناس». تسجل شجرة عائلتنا الكبيرة وأعني بها تحديداً شجرة عائلة الصحاف إلى جانب ما تسجل من أسماء تغمدها الله بواسع رحمته وآخرين يعيشون بين ظهرانينا، عاشوا في الجزيرة العربية والعراق والكويت والبحرين وإيران. حوادث جرت على بعض أفراد هذه العائلة، بعضها مأسوي، والبعض الآخر شخصي ينمّ إلى جانب ما ينم عنه، عن إيمان العائلة بالعلم والمعرفة وحب اكتساب شرفهما. فمن الحوادث المرتبطة بمأساة العلم والمعرفة التي لا يفتأ يتحدث عنها كل من حوته تلك الشجرة، أن أحد الأفراد في شبه الجزيرة العربية المنضوين تحت مظلة مذهب جديد برز في شبه الجزيرة العربية يكفّر هذا وذاك، سأل أحد علماء الصحّاف وهو الشيخ محمد بن حسين بن علي بن حسين الصحاف، أن يثبت أن الشمس قد ردّت لعلي بن أبي طالب، ليؤدي فريضة الصلاة بعد أن فاتته «صلاة الظهر»، وهو في أحد الحروب. وأن ما يزعمه من يؤمنون بحقيقة هذه الحادثة (عودة الشمس لعلي) لا يعدو عن كونه محض افتراء وبدعة ليس كمثلها بدعة، وواجبٌ أن يرجم أصحابها ويقذف بهم في النار، وتحدّى الشيخ محمد بن حسين بن علي بن حسين الصحاف، جميع «المكذبين رد الشمس للإمام علي (ع) بالقول إنه الذي لا يقارن بالإمام علي (ع) يستطيع ذلك. وبعد أن تم تحديد المكان والزمان «قام بدق مسمار في وسط الوطأة على الحد الفاصل بين الظل والشمس وثبتت الشمس وعندما نزع المسمار زاغت الشمس عنده. عند ذلك ألجأه المخالفون إلى ترك وطنه. وفي البلد التي استضافته (الكويت) فاستوطنها مع جميع أفراد عائلته، أسس الشيخ الصحاف أحد أقدم المساجد الكبرى في دولة الكويت حتى يومنا هذا، والذي له كثير من الفعاليات الاجتماعية والخيرية مما يشهد له. لقد وعى الشيخ الصحاف القرآن الكريم: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (البقرة: 681).
الألسنة البذيئة
مثل الشيخ الصحاف، هناك الكثيرون من أصحاب العلم والمعرفة، تعج بذكراهم العطرة أكبر الكتب الإسلامية من مختلف المذاهب الإسلامية الكبرى من دون تمييز. أولئك الذين لا يخرجون عن محيط الأدب الرفيع والكلم الجميل المشحون حكمة وموعظة «ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (النحل: 521)، و«وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» (فصلت: 43). اولئك لا يرشقون الناس بوابل الكلام البذيء، ولا يكفّرون مسلماً، ولقد جاء «من كفّر مسلماً فقد كفر»» بيد أن أولئك الناس الذين يفتقدون المعرفة والعلم الصحيح والإيمان الصحيح، يخرجون في جميع الأزمان كما الفقاعات التي ما أن تعلو قليلاً حتى تنفجر وتندثر في فضاء الله الواسع، من دون أن يعرف لها شيء، لجهلها التحليق في سماوات العلم الإنساني... ولن أقول العلم الرباني، ولعجزها المفرط على التحمل. هذا جرى منذ زمن بعيد، كان فيه المتعلمون قلائل جداً، ومرّت بعد تلك الحادثة حوادث عدة تعلم منها عدة أجيال أشياء كثيرة، وتعزّزت المعرفة المبنية على العلم الصحيح، وساد أمل بين الناس جديد بأن لن يطرد إنسان من وطنه لأي سبب كان، أو أن يتعدى إنسان على آخر بكلام بذيء ليس فيه من الحكمة شيء، أو من الموعظة الحسنة شيء. ومما يبكي حقاً أننا نعيش في بدايات القرن الحادي والعشرين المسمى قرن العقل وقرن المعرفة، وقرن المعلومات والحرية. مسميات أخرى ترفع من شأن الإنسان أن يأتي كثير من المتلبسين بلباس الدين ويهرفون بما لا يعرفون، ويذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك ليقذف الناس جميعاً بمفردات هي أقل ما يقال عنها إنها مفردات بذيئة ودنيئة في الوقت ذاته» فقد عاصرت صراخ أحدهم وهو يقذف المجتمع الذي يعيش فيه ويلبس جلهم لباس العربدة والعهر، فقد اتهم أهل الخليج جميعاً من دون تمييز بكلام بذيء، متهماً إياهم بالعربدة والفسق والمجون، بعدما طلب من شعب البحرين توجيه السؤال إليهم عن سلوك بناتهم ومتهماً بناتهم (بنات البحرين جميعاً) في الوقت ذاته بامتهان أعمال الرذيلة والعربدة. ألا تذكرون تلك الصرخة غير المسئولة: «اسألوا أهل الخليج عن بنات البحرين»، صرخ ذلك المتستّر بلباس الدين بتلكم الكلمات البذيئة من دون أن يقف في وجهه أحد من المذاهب جميعاً من دون استثناء، ولم يقف أحد من المستنيرين حقاً ولا من أولئك الذين نصبوا أنفسهم دعاة ومدافعين عن الناس وحماية شرفهم ولا من رجالات الدولة المفترض منهم أن يصدّوا كل من تسول له نفسه الاعتداء على أعراض الناس بالقول أو الفعل. والمبكي أيضاً وبحق أن يأتي فردٌ لا يعرف من مفردات اللغة إلاّ السيئ، ليكون المسئول عن رفعة الناس ومكانتهم وحماية مصالحهم على منبر من أعز المنابر على قلوب الناس. اليوم، بعد مضي شيء وجيز من الزمن يأتينا أيضاً متكرّشون منتفخون حتى الثمالة، بعيدون كل البعد عن المعرفة والكلم الطيب الحسن، لا همّ لهم سوى إيقاظ الفتنة والتفريق بين الناس والدعوة إلى اجتثاثهم من أوطانهم لسبب ما يؤمنون به. وهؤلاء موقظو الفتنة إن لم يتصدَ لهم عقلاء الناس والعمل بجهد على إيقافهم عند حد الكلمة الطيبة فإن البلاء الكبير والخطير قادم نحونا لا محالة، وسيشعل ناراً ستأكل كل ما حولها. لقد انتصرت الفتنة في دول كثيرة مع وجود عقلاء مشهود لهم بين الناس، وراح ضحيتها أناس كثيرون وهي لاتزال تحصد من الأرواح الكثير، وذلك لسبب الإهمال الذي أبداه المجتمع تجاه بروز تلك الجماعات في بداياتها. ونحن في الخليج لدينا فرصة ذهبية ويجب ألا نفوتها بإهمال التصدي لمثل هكذا جماعات تكفيرية تدميرية مهما كلفنا الأمر. الشيخ الصحاف طرد من بلاده وهُجّر لسبب إثبات حقيقة معتقد يحمله، لا لسبب حمله السلاح وقتل الأبرياء من الناس، أو لشتم الناس والتعرض إليهم والإساءة إليهم، ولا حتى التعرّض إلى الحاكم أو سلطة الحكم» المفرح أن أولئك الموهومين عجزوا عن فهم الحقيقة الوضاءة كما الشمس: إنه لن يكون في مقدورهم طرده من أرض الله الواسعة، فقد منّ الله عليه بموقع يذكر فيه اسمه، ويطعم فيه الفقراء ويساهم في مساعدة الفقراء في شتى أقطار العالم بمساعدة رجال آمنوا بما آمن به الشيخ الصحاف، وظلت ذكرى تلك الحادثة وستظل برهاناً على أن العلم والكلمة الحسنة تنتصر في النهاية على كل أشكال التطرف والحمق والجهل. وفاتهم أيضاً أنهم سينتهون خالدين في مزبلة التاريخ. إنني في ختام هذا المقال، أتحدى هؤلاء المتكرشين والمنتفخة جميع غرائزهم أن يأتوا برجل مثل علي بن أبي طالب، الذي يتشيع له الملايين من الناس ويحبّونه، ويعشقونه. بل أذهب إلى أبعد من ذلك وأتحداهم في أن يأتوا برجل يأتي بشيء بسيط من الحكمة والعدل والشجاعة التي لعلي، وآثاره قائمة بيّنة بيننا. وعارفٌ سلفاً أنه ليس في استطاعتهم فعل ذلك. وأذهب في التحدي إلى أبعد من ذلك، طالباً من أعتى رجالاتهم أن يأتوا برجل مثل الحسن بن علي بن أبي طالب الذي أحبّ أن تتحد الأمة ولا يتفرق شملها، وتنازل عن سلطة الحكم. بل أتحداهم أيضاً أن يأتوا برجل مثل الحسين بن علي بن أبي طالب في الشجاعة والتضحية والإيثار. ولمعرفتي أن ليس في استطاعتهم الإتيان بأمثال هؤلاء الأئمة الصالحين، فأنا أتحداهم بما هو أهون، ولكنه من فعل الرجال الأحرار، إني أتحداهم أن يكونوا كالحرّ الرياحي. وهنا أجزم أن ليس في استطاعتهم أن يكونوا مثله، ولد حراً وعرف حقاً معنى الكلمة الحسنة. وإن أعيتهم كل الحيل فأتحداهم، أتحدى هؤلاء الغافلين المتغافلين عن الحقائق الإنسانية وعن هدف الإنسانية العظيم الأول والأخير: رفعة الإنسان عن مستوى الحيوانية «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِير مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» (الإسراء: 07)، أن يأتوا برجل مثل عمر بن عبدالعزيز. التاريخ يعلمنا ويذكرنا عبر صفحاته، أن الموهومين بالقوة وبتشريد الناس من أوطانهم وقطع أرزاقهم هم أول ضحايا هذا التشريد، وهم أول ضحايا قطع الأرزاق فيضحون بين ليلة وضحاها أناساً تصفعهم الحيطان وتلفظهم البحار قبل الأوطان، وترجمهم السماوات... ولا من أحد يترحّم عليهم... فإن لم تصدّقوا قولي هذا فاقرأوا التاريخ ففيه الخبر اليقين. زبدة الكلام: «مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأِ نفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» (الروم: 44). «وَذِي سفه ، يُواجِهني بجهل وأكرهُ أن أكُونَ له مجيبا يزيد سفاهةً وأزيدُ حلماً كعود ، زادَ بالاحراق طيبا» علي بن أبي طالب * كات
العدد 1190 - الخميس 08 ديسمبر 2005م الموافق 07 ذي القعدة 1426هـ