العدد 1190 - الخميس 08 ديسمبر 2005م الموافق 07 ذي القعدة 1426هـ

العمران... واشتقاقاته المعرفية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الفارق بين المعرفة والأيديولوجيا لم تلتقط أهميته النخب العربية «الحداثية». وهذا ما دفعها لاحقاً إلى الخلط بين فكرة منتجة تقارب الواقع وبين نص منقول (مستعار) يخاطب وقائع مغايرة في المكان والزمان. فإسقاط دور الزمان وموقع المكان من لحظات إنتاج المعرفة أسهما في تأسيس وعي لا تاريخي تمثل في توهمات ايديولوجية تفتقر إلى علاقات اجتماع (عمران بشري) يحتضنها ويدافع عنها ويعمل على تحقيقها. وهذا النوع من اللاوعي يفسر إلى حد كبير مأزق ايديولوجيات «الحداثات» العربية التي وجدت نفسها في عزلة عن الناس وغير قادرة على التكيف وتفتقد إلى تصورات (آليات) تقرأ الواقع كما هو من دون اسقاطات ذهنية أو نصوص مستعارة من فضاء تتحكم في قوانينه مجموعة شروط تاريخية واجتماعية مختلفة. فالحداثة في أساسها عمرانية وهي لا تولد من فراغ أو تتأسس على نصوص منقولة (مستعارة). مأزق «الحداثات» الفكرية يبدأ من هذه المسألة وهي خلط النخب العربية بين المعرفة والايديولوجيا وعدم قراءة تاريخ الأفكار والأسس الموضوعية والشروط الذاتية التي اسهمت في إنتاج الفلسفة الأوروبية وعلومها. فالفكرة لا تأتي من خواء عمراني والتصورات النظرية وآليات البحث والمناهج لا تخرج مصادفة في هذا الوقت وذاك المكان فهي تنتج لتلبية حاجات الواقع ومتطلباته. المصادفة أحياناً تلعب دورها في توفير الفرص للاختراع والاكتشاف إلا أنها ليست كافية لتفسير التطورات والشروط الموضوعية التي تحدد كثيراً قوانين المعرفة وتشجع على النشاط من أجل انتاجها. مثلاً حين كان الإسلام يقود العالم وفي مقدمة الحضارات نجح في فرض شروطه ودفع مختلف الثقافات المجاورة له جغرافياً إلى التماهي به وتعلم لغته والكتابة بها. فالعربية كانت لغة مسيطرة (كالانجليزية في أيامنا) وكان على المثقفين وطلبة العلم والمعرفة دراسة قواعدها والتحدث بها بصفتها وسيلة للاشباع الذهني والتقدم الاجتماعي. فالقوة المهيمنة تقود أحياناً التحولات وتعيد إنتاجها وتشجع النخب على العمل والابتكار والتجديد والاكتشاف والاختراع تجاوباً مع ضغوط الحاجة وتلبية لحركة الواقع وتطوراته. وحين ضعف الإسلام وهزلت قوته الكونية تراجعت الكثير من الثقافات عن التقرب إليه والتماهي به، بل إن هناك الكثير من الحضارات التي تأثرت به سابقاً انقلبت عليه وابتعدت عنه. وفي الحالين بقي الإسلام يمانع ويولد الطاقات، ولكن في ظروف مختلفة ومغايرة قللت من تأثيراته وقلصت كثيراً من قدراته على التغيير والتجديد. وبسبب ضعف التطور العمراني في العالم الإسلامي تراجعت الفرص وخف الحماس وازداد الاتكال على الآخر واتسعت دائرة النقل والتكرار والاستعارة. ما حصل في تاريخ الإسلام والمسلمين يمكن ملاحظته في تاريخ أوروبا والأوروبيين. فهذه القارة دخلت أيضاً في دورات صعود وهبوط وكادت أن تغيب عن المشهد الدولي في لحظات تاريخية. وفي كل الحالات يمكن قراءة التحولات من خلال النخب ودورها. فحين كانت أوروبا تعيش دورة الصعود العمراني كانت الثقافة والفن والفلسفة تنتعش وتتقدم لتتكيف مع حاجات الواقع ومتطلباته. وحين كانت القارة تمر في دورة هبوط عمراني كانت النخب تغيب عن المشهد التاريخي وتأخذ مكانها ودورها مجموعات أخرى تتحرك في حضارات بعيدة أو قريبة من أوروبا. مسألة المعرفة إذاً تتصل بالتاريخ وموقع الأمة في الفضاء الكوني ودورها في التأسيس والقيادة. وكل هذه العناصر مجتمعة تسهم في إنتاج نخبة تندفع نحو الابداع والابتكار والاكتشاف والاختراع لتلبية حاجات واقع يتغير ويضغط في اتجاه التشجيع على العمل (لا الاتكال) حتى تنسجم المتطلبات مع التطور. الأفكار والتطورات والمناهج والآليات إذاً لها تاريخ ولا يمكن استعارتها وإسقاطها من مكان على مكان وسحبها من زمان إلى آخر من دون انتباه إلى ذاك الفارق بين عمران متحرك (يتقدم) وعمران ساكن (يتخلف). فالوتيرة بين الأول والثاني متغايرة والاختلاف النسبي في الأطوار الزمنية يلعب دوره في تعطيل الرؤية والسقوط في توهمات ايديولوجية بعيدة عن المعرفة بصفتها نتاج تحولات عمرانية (تاريخية اجتماعية). في أوروبا مثلاً لم تكن القارة دائماً على سوية واحدة. فالاختلافات كانت موجودة ولاتزال. والثقل الحضاري (المركز) كان يتغير زمنياً وينتقل مكانياً مرة من جنوب شرق القارة (الحضارة اليونانية) إلى جنوب وسطها مرة (الحضارة الرومانية) إلى جنوب غربها في طور الحضارة الاندلسية (العربية / الإسلامية). وفي العصر الوسيط غابت القارة عن المشهد الدولي وتراجع دورها التاريخي لمصلحة الحضارة العربية الإسلامية التي قادت البشرية لمدة ثمانية قرون متتالية... وبعدها أخذت في الهبوط لمصلحة عودة أوروبا إلى مسرح التاريخ لتقوده مجدداً. هذا الحضور والغياب يمكن ملاحظته من خلال العمران البشري ودور النخب في القيادة وصناعة التحولات. كما أن المشهد الجديد لأوروبا لم يتركز في مكان واحد بل تحول وانتقل من البرتغال وإسبانيا وإيطاليا إلى فرنسا وألمانيا وبريطانيا صعوداً إلى دول الشمال... وبعدها انتقل ثقل الحضارة الأوروبية (بشرياً وعمرانياً) إلى العالم الجديد، حيث تقود الولايات المتحدة (الأوروبية الأصل) اليوم المشهد العالمي. كل هذه التحولات يمكن رصدها من زاويتين: التاريخ (الاجتماع والعمران البشري) والمعرفة (مختلف حقول الفكر والفن والفلسفة). فحين يكون العمران في حالات تقدم تتقدم المعرفة وحين يتراجع أو يتطور أقل من المعدل المطلوب تتراجع المعرفة وتتخلف النخب ويبدأ الاتكال على إنتاج الآخر واستعارة «الحداثة» من حقول مختلفة. هذا القانون (الارتباط بين المعرفة والتاريخ) لا ينطبق على العرب والشعوب الإسلامية فقط وإنما يلاحظ وجوده في كل الحالات والحضارات. وأوروبا ليست فوق هذا القانون ايضاً. فهي شهدت حالات مشابهة في صعودها وهبوطها ثم صعودها. حتى حين أخذت أوروبا تستعيد زمام المبادرة وتتحول القيادة إليها لم تقفز دفعة واحدة وانما تطورت خطوة بعد أخرى. فالتطور نتاج التراكم. والمعرفة كالعمران تتطور وتتكيف وتنمو وفق ضغوط الحاجة وما يتطلبه الواقع المتغير من اختراعات واكتشافات ونظريات وتصورات لتلبية الوظائف الجديدة للتقدم العمراني. قبل الاكتشافات الجغرافية مثلاً التي بدأت في مطلع القرن الخامس عشر لم تعرف القارة الأوروبية بين الثالث عشر إلى مطلع ذلك القرن سوى ثلاثة من كبار الفلاسفة، هم: توما الاكويني توفي في العام 1274م (671هـ)، وجون دينس سكوتس توفي في العام 1308م (706 هـ). وويليم أوكهام توفي في العام 1349م (784 هـ). وهؤلاء الثلاثة أسسوا بدايات التفكير الفلسفي في أوروبا من دون أن ينجحوا في تأسيس آليات معرفية مستقلة عن دائرة تأثير (هيمنة) الفكر الفلسفي العربي / الإسلامي في إسبانيا وجنوب إيطاليا (صقلية). بعد دخول أوروبا عصر الاكتشافات، أخذت التحويلات الخارجية (الخامات والثروات والأسواق) ترفد القارة بعناصر القوة» فارتفع مستوى تطورها الاجتماعي ونموها العمراني فأخذت دائرة الفكر والفن والفلسفة في الاتساع وانتعشت الاختراعات والاكتشافات وازدهرت النظريات السياسية فتطور الوعي الديني وأنتج حركة إصلاحية شقت طريقها إلى الناس (وسط غرب وشمال أوروبا) في مطلع القرن السادس عشر. بعد حركة مارتن لوثر الدينية الاصلاحية نمت دائرة المعرفة وأخذت تتطور تأسيساً على الاجتماع (العمران البشري) فازدادت أسماء الفلاسفة وكثر أصحاب المدارس البحثية وظهرت التيارات وتشعبت مناهج التفكير وآليات التحليل والتركيب. وفي كل فترة كانت ظروف المكان ومقومات الزمان وعناصر الواقع وحاجاته تفرض شروطها على الفضاء المعرفي فتظهر الألوان الفلسفية لتلبي حاجات التطور والتقدم. الفكر إذاً نتاج حاجة ولا يمكن أن يخرج على سياقه العمراني إلا في حالات قليلة ومصادفات محكومة بدرجة عالية من الاستثناء. وهذا الفارق بين المعرفة (التاريخ) والايديولوجيا (الاستعارة) أهملت النخب العربية «الحداثية» أهميته فسقطت في توهمات أنتجت تشوهات في الوعي عزلتها عن الواقع والناس... والتقدم

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1190 - الخميس 08 ديسمبر 2005م الموافق 07 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً