الجولة المكوكية التي بدأتها وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس لبعض الدول الأوروبية لشرح وجهة نظر بلادها بشأن التجاوزات التي ارتكبتها وكالة المخابرات المركزية (سي. آي. أيه) تضمنت الكثير من المعطيات. فالجولة تناولت ملفات متصلة بالأمن الأوروبي وعلاقات دول الحلف الأطلسي ودور «الناتو» في المستقبل. ومجموع هذه الملفات المهمة تساوي أو تبرر تلك الأخطاء التي حصلت ضد أسرى ومخطوفين. فالأخطاء برأي الوزيرة مبررة وارتكبت بقصد حماية الأمن الدولي من شبكات إرهابية يفترض أنها تخطط لعمليات كانت ستؤدي لو حصلت إلى سقوط ضحايا وأبرياء. التعذيب على الهوية (مسلم، آسيوي، مشرقي، مغربي) فرضته الضرورة الأمنية. والأمن برأي رايس له معايير خاصة به، وإذا أخذت بها الدول في لحظات معينة ولضرورات مؤقتة، فالاخطاء ستقع وسترتكب التجاوزات بحق الإنسان وحريته. رايس ربطت دفاعها عن أخطاء المخابرات الأميركية بنظرية الأمن. فالأمن برأيها فوق الجميع والإنسان لا معنى له حين تصبح مسألة محاربة الإرهاب هي البند الأول في جدول اعمال الدولة. ولهذا اعتذرت رايس ولم تعتذر، كذلك بررت الاخطاء التي حصلت ولم تعد بعدم تكرارها لأن الحرب على «الارهاب» لاتزال حتى الآن هي سياسة «البيت الأبيض» وعليها قامت استراتيجية الهجوم على الخارج لمنع هذا «الخارج» من اقتحام «البيت» من الداخل على غرار ما حصل في سبتمبر/ أيلول .2001 الولايات المتحدة لم تتراجع عن الاخطاء وانما حاولت من خلال جولة رايس المكوكية شرحها وتفسيرها وتبريرها وتوضيح جوانب من صورة غامضة بدأت تنكشف أمام العالم. فالعالم أو بعضه الذي راهن على احتمال التقدم في مجال العلاقات الانسانية وتأديب «الدول المارقة» والحد من تجاوزاتها وجد نفسه في دائرة خطاب واحد مع أنظمة الاستبداد التي تنتهك حرية الإنسان حين تهدد المعارضة أمن السلطة. الكلام الذي رددته رايس في جولتها المكوكية لتوضيح أو تبرير أو تفسير أو شرح الاسباب الموجبة لتلك الاخطاء والتجاوزات لا يختلف كثيرا عن تلك الخطب التي تطلقها أبواق أنظمة الاستبداد دفاعا عن أمن السلطة. فالدول «المارقة» و«القمعية» تكره الحرية اذا تعارضت مع مصالح السلطة. وكذلك تحارب الصحافة اذا كشفت أو فضحت أو تحدثت بلغة لا تتفق مع مصلحة الدولة. وكذلك تلجأ إلى ارتكاب تجاوزات وممارسة أخطاء بحق الانسان وحريته حين تجد أن هذه الوسيلة متاحة قانونيا لحماية السلطة من المعارضة. إدارة جورج بوش لم تتردد بدورها في استخدام اللغة نفسها وارتكاب تجاوزات واخطاء وتقديم خطط لمنع الرأي الآخر من التعبير عن نفسه أو الإعلان بوضوح عن رفضه للسياسة الأميركية (اقتراح قصف محطة الجزيرة مثلا). مئات التجاوزات ارتكبتها ادارة بوش منذ إعلان واشنطن الحرب على الارهاب. والتجاوزات ليست مجرد اخطاء وانما ترجمت نفسها باهانات ومجازر بدءا من تلك التي ارتكبت في قلعة مزار شريف في افغانستان وانتهاء باستخدام قنابل الفوسفور الأبيض في الفلوجة. مضافا إليها تلك الانتهاكات التي ارتكبتها ضد السجناء من غوانتنامو في كوبا إلى أبوغريب في بغداد. هذه السياسة ليست مجموعة أخطاء وتجاوزات وإنما هي جوهر الاستراتيجية الاميركية التي أعلنت غداة ضربة سبتمبر. فمنذ تلك اللحظة فقدت أميركا قدرتها على التحكم بسياستها وتحولت من دولة برغماتية إلى قوة ايديولوجية ترهب الناس وتحاسب الدول على اختياراتها وتطارد الأبرياء على الشبهة ومن دون أدلة. أميركا تحولت بعد سبتمبر إلى دولة/ قبيلة تمارس سياسة الثأر العشائري ولا تميز بين متهم وبريء وبين مجرم وصاحب قلم يخالف تلك الاستراتيجية المجنونة. وهذا الانقلاب من دولة إلى قبيلة تريد الانتقام من قوة مجهولة أهانت «شرف» الأمن القومي يفسر تلك الدوافع التي بررت كل التجاوزات واعطت الضوء الأخضر للمخابرات بفعل ما تستطيعه لمنع تكرار الضربة. جولة رايس على أوروبا لم تكن للاعتذار أو للتراجع وانما لتوضيح مبدأ الشراكة الأطلسية وأصوله الأمنية. فالأمن للجميع وبالتالي فإن الأخطاء والتجاوزات مشتركة بين أوروبا وأميركا
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1189 - الأربعاء 07 ديسمبر 2005م الموافق 06 ذي القعدة 1426هـ