دمشق: على غير العادة والمتوقع، فإن شتاء سورية لم يبدأ بعد حتى الآن، على رغم أن كل المؤشرات المناخية تقول إن فصل الشتاء قد بدأ، وإن الثلوج على وشك أن تعمم قمم جبل «قاسيون» ليحيط دمشق الفيحاء بهالة بيضاء، تأخذ من هامة جبل الشيخ بعضاً من مؤثرات ثليجها الدائم، تتزامن هذه الأيام ارتفاعات غير عادية في درجة الحرارة المناخية والسياسية على السواء، فتضفي على الشعب السوري العربي الأصيل، حرارة إضافية، بل وقلقاً وتوتراً لا تنكره العين الفاحصة، فثمة ضغوط هائلة تحاصر سورية من كل حدب وصوب، وثمة تهديدات عدة تتوالى عليها دولياً وإقليمياً، تسبقها وربما تمهد لها تحذيرات عربية متسارعة. أصحاب التحذيرات من العرب العاربة والمستعربة، يقولون إننا نخاف على سورية من مصير العراق، فالتهديدات الأميركية والغربية «والإسرائيلية أيضاً» ضد سورية اليوم، لا تقل شراسة عن تلك التي ظلت توجه إلى العراق، على مدى العامين 2001 ،2002 فلما لم يمتثل صدام حسين ولم يرضخ، وقعت الواقعة ونزلت القارعة... ولا نريد لسورية ما حاق بالعراق ولايزال، وقائمة الاتهامات التي تحملها الإدارة الأميركية وصقورها من المحافظين الجدد عشاق الحرب والضرب والكرب، باتت معروفة ومعلنة، ابتداءً من طلب التعاون السوري الكامل مع الجيش الأميركي الذي يحتل العراق، لضبط الحدود، وانتهاءً بالصلح مع «إسرائيل»، مروراً طبعاً بقطع العلاقة السورية الاستراتيجية بإيران وحزب الله اللبناني، وطرد الفصائل الفلسطينية المعاندة... إلخ. وعلى رغم أننا لم نتيقن بعد من هوية الطرف الذي اغتال رئيس وزراء لبنان السابق الشهيد رفيق الحريري، في فبراير/ شباط الماضي، فإن أصابع الاتهام توجهت مباشرة إلى المخابرات السورية من دون غيرها، على رغم أن أطرافاً أخرى لها مصلحة ويمكن أن توجه إليها الاتهامات، ولذلك أصبح تقرير لجنة «ميليس» واتهامات ميليس وشكوك ميليس، هي الهراوة الصلبة التي تدق فوق الرأس السورية بانتظام وتتصاعد باستمرار، ليس بهدف كشف لغز اغتيال الحريري فقط، ولكن بهدف تقديم الرأس السورية إلى المقصلة الدولية وفق قرارات مجلس الأمن، ولا أظن أن النظام السوري الحالي الحاكم منذ العام 1970 عبر مرحلة الرئيس الأب حافظ الأسد (1970 2000)، ثم عبر الرئيس بشار الأسد (2000 2005) دخل في مأزق إقليمي ودولي بالغ التعقيد مثل الذي يحاصره الآن، حتى مأزق احتلال الجولان الممتد من العام 1967 حتى الآن، قد تناساه كثيرون لأسباب عدة وحجج متراكمة، ولذلك فإن دمشق على سبيل المثال تبدو اليوم هادئة كعادتها، لا يعكر صفوها المعهود، سوى المظاهرات الموجهة والاعتصامات المنظمة تعبيراً عن رفض التدخلات والتهديدات الأميركية، وهي (المظاهرات الواسعة) أهم الأسلحة التي يلتحف بها النظام الآن، جنباً إلى جنب مع الوفود الشعبية العربية التي تصل وتغادر دمشق، معلنة تضامنها الحقيقي في المأزق الصعب مع الشقيق المحاصر. بالعقلية الأموية الموروثة لا يقطع النظام الحاكم أبداً شعرة معاوية، مع المجتمع الدولي عموماً، بل ومع أميركا التي تمارس أقسى الضغوط وتبتز سورية حتى الاعتصار، وفي هذا يقول الرئيس بشار الأسد في حوار صريح ومشوق، مع الأمانة العامة لاتحاد الصحافيين العرب يوم الخميس الماضي بقصر الشعب المطل من على دمشق: «نحن لا نسعى إلى المواجهة مع أميركا ولا نستطيع ولا نسعى إلى مواجهة مجلس الأمن أو غيره، نحن دولة صغيرة تعرف قدراتها، بل إننا نتعاون في كل ما نستطيع التعاون فيه من دون التفريط في كرامتنا، الآن نحن نتمسك بالصمود ونتحلى بالتحمل في حدود قدراتنا، وقد حدثت معنا مساومات، مثلاً بشأن نزع سلاح حزب الله في لبنان، رفضنا، ضغطوا علينا لنبتعد عن العراق، ابتعدنا، لكنهم طالبونا بالتآمر على شعب العراق، قلنا هذا ما لا نستطيع، غضبوا علينا...». على مدى ساعة ونصف ساعة، أجاب الرجل على عشرات الأسئلة المتدفقة، من أفواه ثلاثة عشر صحافياً مجرباً هم أعضاء الأمانة العامة لاتحاد الصحافيين العرب، ومن بينها أسئلة يراها البعض محرجة كتلك التي وجهتُها شخصياً إلى الرئيس، وخصوصاً بشأن من قتل الحريري طالما أن سورية بريئة، ولماذا انتحر غازي كنعان رجل سورية القوي الذي «حكم» لبنان لعقدين متتاليين، ولماذا لم ينفذ الرئيس تعهده بالإصلاح والتحديث وإطلاق الحريات، التي طالما تحدث عنها مراراً منذ خطاب القسم العام 2000 حتى الآن، ولماذا لاتزال الصحافة والإعلام السوري يخضعان للبيروقراطية الحكومية والهيمنة الحزبية «البعثية» على رغم كل الوعود بإطلاق حريتهما، ولماذا غاب ربيع دمشق الديمقراطي؟، أجاب الرئيس بطريقته، وطلب أن يكون بعض حديثه خاصاً وليس للنشر، لكنه في كل الظروف كان حريصاً على الشرح المطول، وعلى الظهور بمظهر الواثق غير الخائف من احتمالات تطور التهديد الأميركي والحصار الغربي إلى ضربات عسكرية، فإلى أي جدار يسند الرجل ظهره؟، قالت ملامحه فضلاً عن منطوق كلامه، إنه حزين للموقف العربي، «لكن التنسيق دائم بين مصر وسورية والسعودية»، لعبت تركيا دوراً مهماً، لكن الدور الأساسي في قضية التحقيق في جريمة اغتيال الحريري وطريقة استجواب السوريين المطلوبين، لعبته روسيا بتنسيق قوي معنا، هناك تنسيق قوي لنا مع إيران وحزب الله اللبناني، نحن نمثل ثلاث قوائم للطاولة، إن سقط احداها، سقطت الطاولة،». مثل ابيه يجيد الرجل حرفة الكلام والشرح والتفصيل فيما يريده، ويختصر فيما لا يريد الإفصاح عنه والمسكوت عليه... وأظن أن المسكوت عنه الذي لا يخضع حتى الآن لمزيد من الشرح والتفصيل، هو الموقف الداخلي السوري، وضرورة تحديثه وتطويره ديمقراطياً باطلاق الحريات، على رغم تقديري للظروف الصعبة التي تحاصر سورية بالتهديدات الأميركية والضغوط الخارجية. ومثلما قلنا ونقول في مصر، قلنا ونقول في سورية، التي نحب شعبها العربي الأصيل، ونقدر دوره الوطني والقومي على امتداد الحضارة العربية والإسلامية، قلنا ونقول إن المخاطر الخارجية قد تكون عاصفة، ولكن التهديدات والهشاشة الداخلية مدمرة، وقلنا ونقول إن ضغوط أميركا علينا لإجراء إصلاحات ديمقراطية لا تعني أن نكره الديمقراطية ونعادي دعوتها ونصادر حرية دعاتها، ذلك أن الإصلاح الديمقراطي الحقيقي «وليس الشكلي والمزيف والملون» هو مطلب شعبي وطني قبل الضغوط الأميركية وبعدها، ولذلك، كان محبطاً لنا ولغيرنا، أن تذبل سريعاً زهور ربيع دمشق الديمقراطي وتتحول إلى أوراق خريف باهتة، ويذكر الجميع أن ربيع دمشق انطلق قوياً بعد تولي الرئيس بشار الحكم، مطلاً على سورية بوجه شاب وطموح متحضر، واعداً بنقلة موضوعية وخصوصاً في قضية الحريات الديمقراطية، من عصر الحزب الأوحد المسيطر على كل شيء، بصرف النظر عن أحزاب الجبهة الوطنية المشاركة، التي يعرف الجميع أنها أحزاب كرتونية غير فاعلة، إلى عصر التعددية الحزبية والانفراجة الديمقراطية، وحرية الصحافة والرأي والتعبير حتى على غرار الهامش المحدود في مصر مثلاً.
انتعش الربيع قليلاً ثم أصيب بالارتجاع لأسباب كثيرة، يرى أهل الحكم أن أهمها تكاثر الضغوط الخارجية والعقوبات وخطوات الحصار التي عوقت الإصلاح وعرقلت أحلامه، ويرى آخرون أن الحرس القديم أحبط مخططات الإصلاح التي يقودها الحرس الجديد، بينما يرى عتاة المعارضين في الداخل وفي الخارج، أن البعث هو البعث وان النظام هو النظام، وان الجميع لا يقرأ المتغيرات الداخلية أو الدولية، وأنهم غير جادين أصلاً في الإصلاح أو في التنازل حتى عن جزء صغير من السلطات والامتيازات، المؤكد أن كل هذه الأسباب والمبررات قائمة فعلاً، فالصورة مكررة في أكثر من بلد عربي والمحاكاة مستمرة، ولا فضل لعربي على عربي إلا بمزيد من الاستبداد، غير أن الضغوط المتزايدة على سورية من الخارج ومن الداخل تضع سورية في أكثر الأوضاع حرجاً وأشد المآزق صعوبة هذه الأيام، امتداداً إلى المستقبل المجهول. فقد أضافت الضغوط الأميركية الشرسة، إلى قائمة اتهاماتها لسورية الاتهام بانتهاك الحريات وحقوق الإنسان، وممارسة القهر والدكتاتورية والفساد «وهي تهم جاهزة لكل الأنظمة جنباً إلى جنب مع اتهامات» تشجيع الإرهاب في العراق، فلسطين، لبنان، التحالف مع إيران في محور الشر والدول المارقة، واقتناء أسلحة الدمار الشامل... الخ، وحكاية التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الحريري، وتقارير لجنة ميليس وغيره ليست إلا مدفعية صغيرة لاطلاق النار، تمهيداً للهجوم الكبير إن لم ترتدع سورية وتنصع، ربما يرى كثيرون حرجاً في الإلحاح على سورية الآن لبدء إصلاح ديمقراطي حقيقي يتجاوز هذا المأزق، لكننا نؤمن أن الإصلاح بأيدينا خير من الإصلاح بيد أميركا، وبأن استباق الضغط الأميركي والابتزاز بورقة الديمقراطية، هو قطع للطريق على المزايدين والمتربصين، وهم كثر، واستجابة صادقة لمطالب شعبية حقيقية تتطلع إلى سورية جديدة، تتمتع بالحرية وتنعم بالانفتاح، فتحافظ على سيادتها وثقافتها واستقلالها وكرامتها. وغير ذلك، يسهل الطريق أمام الضغط الخارجي، ويمهد السبيل أمام التمرد الداخلي، وخصوصاً أن الإرهاب عاد إلى سورية خلال العامين الأخيرين بعد غياب طويل، كما قال الرئيس بشار الأسد بنفسه، وأن بعض زعماء المعارضة في الخارج بدأوا يتدربون على ركوب الدبابات الأميركية «وربما الإسرائيلية» للعودة إلى دمشق، كما عاد قبل أكثر من عامين نظراء لهم إلى العراق، فدمروه تدميراً كما يرى الجميع، من موقع المحبة، لا نريد لسورية أن تقع في هذا الفخ الشائك مثلما لا نريد لسورية أن تبقى أسيرة الجمود والقلق والتوتر، الذي يغلي في الأعماق، حتى وإن غطته مظاهرات التأييد ومسيرات المبايعة وغلالات الهدوء والترقب!
خير الكلام
يقول أحمد شوقي:
يا ربِّ هبتْ شعوبٌ من منيتها
واستيقظتْ أممٌ من رقدة العدم
العدد 1188 - الثلثاء 06 ديسمبر 2005م الموافق 05 ذي القعدة 1426هـ