في الحلقتين الماضيتين كان الحديث يدور حول اسباب تأخر النتائج العملية التي من المفترض ان يحصل عليها المطالبون باصلاحات سياسية من خلال مؤسسات المجتمع المدني، كما حدث في أوروبا الشرقية في الثمانينات من القرن الماضي. ولكن لو راجعنا ما حدث في أوروبا الشرقية فإن التغير نحو الديمقراطية لم يحصل فقط بسبب نشاطات مؤسسات المجتمع المدني، وانما كانت هناك ضغوط مباشرة على الدول الشمولية أدت في النهاية الى التأثير مباشرة في الاوضاع العامة. تلك الضغوط ليس لها مثيل لو قارنا ما يحدث في بلداننا التي تتمتع حكوماتها بدعم من الدول الغربية. ولو قورنت دولتان مسلمتان فيما يتعلق بالاصلاحات السياسية والاقتصادية، فإننا سنجد ان تركيا تحسن فيها الوضع كثيرا خلال السنوات الخمس الماضية، بينما لم يتغير الوضع كثيراً في مصر، على رغم ان البلدين لديهما مجتمع مدني نشط جدا عند مقارنتهما بالبلدان الاخرى. ولكن الفرق هو ان الحكومة التركية تخضع لضغط شديد من الاتحاد الأوروبي، بينما لا تضغط اميركا على الحكومية المصرية بشكل مماثل. وهذا يعود بنا الى الجانب الآخر المفقود في المعادلة السياسية في بلداننا، وذلك ضرورة وجود ضغط من نوع ما على الحكومات، في الوقت الذي يتم فيه تنشيط المجتمع المدني، لكي يحدث تغير نوعي باتجاه مزيد من الديمقراطية في هذه البيئة أو تلك. المجتمع المدني في تركيا ليس بأقوى من المجتمع المدني في مصر، والاتحاد الاوروبي يفرض شروطا قاسية على اية دولة تسعى للانضمام اليه، وتركيا تود ان تلتحق بالاتحاد الأوروبي، وأحد الشروط القاسية يرتبط باحترام الدولة المتقدمة للقانون الأوروبي لحقوق الإنسان، وقبول تلك الدولة بأن تتدخل المحكمة الأوروبية المعنية بحقوق الإنسان في شئونها الداخلية اذا كان الأمر يتعلق بحقوق الانسان. فالدول الأوروبية (الاعضاء في الاتحاد الأوروبي) جميعها تخضع لقرارات المحكمة الأوروبية الخاصة بحقوق الانسان اذا أصدرت حكما في قضية ما تصل اليها، وكثيرا ما تجبر الحكومات الاوروبية على تغيير رأيها بسبب صدور حكم قضائي من هذه المحكمة. وهذه المحكمة تحتكم الى تشريعات أوروبية وافقت عليها دول الاتحاد الأوروبي وهي تسمو على التشريعات المحلية، وفي حال اختلفت تلك التشريعات الأوروبية مع التشريعات المحلية فإن على الحكومة الأوروبية ان تنفذ القرار الصادر من المحكمة الأوروبية وليس المحكمة المحلية. وهكذا فإن على تركيا ان تثبت «حسن السيرة والسلوك» فيما يتعلق بالتشريعات الحقوقية (كما ان عليها ان تلتزم بالضوابط الاقتصادية الصارمة)، ولكي تتأهل الى عضوية الاتحاد الأوروبي فإنه لا يحق لها ان تمنع الدول الأوروبية من التدخل في شئونها المحلية اذا كان الأمر يتعلق بحقوق الانسان. في المقابل، فإن مصر ليست عليها اية ضغوط مماثلة على رغم انها تحصل على معونات أميركية كبيرة وعلى رغم العلاقات الوثيقة بين البلدين. بل انه عندما احتدم الأمر قبل عدة سنوات مع مركز ابن خلدون قامت الحكومة المصرية باعتقال مدير المركز سعد الدين ابراهيم على رغم ان المركز ومديره على صلات وثيقة بالدوائر الاميركية المعنية مباشرة بتنشيط المجتمع المدني. بل ان مركز ابن خلدون هو أول مؤسسة عربية تتحدث عن نظرية المجتمع المدني في البلاد العربية، وقام المركز باصدار البحوث الكثيرة في هذا المجال قبل ان تصل المواجهة بينه وبين الحكومة المصرية الى مستوى اعتقال مديره. اذاً، تنشيط المجتمع المدني ليس كافيا لوحده، وهذا التنشيط نجح في أوروبا الشرقية سابقا، وينجح في تركيا حاليا، لانه أيضا مربوط بضغط دولي (أو خارجي) مباشر ومؤثر على الحكومة التي تسيطر على المجتمع. وفي بلادنا العربية لا يوجد نموذج مشابه لتركيا، وحتى الدول العربية المطلة على البحر الابيض المتوسط والتي دخلت في «عملية برشلونة» مع الاتحاد الأوروبي استطاعت ان تحبط اي ضغط بهذا الاتجاه. فمهما يكن، فإن الالتحاق بعملية تعاونية (عملية برشلونة) لا يمكن مقارنتها مع الوضع التركي اذ يحاول الاتراك الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي. على ان الضغط الخارجي على بلداننا ارتبط بقضيتين، احداهما رغبة الدول الكبرى في السيطرة على مصادر الطاقة، والثانية تتعلق بسياسة الدول الكبرى (لاسيما أميركا) بشأن تقوية «إسرائيل» على حساب باقي الدول العربية والاسلامية. ولذلك فإن الامور تختلط، وتخسر المجتمعات العربية ثمرات تنشيط المجتمع المدني، بينما تربح الحكومات العربية من الدعم الذي تحصل عليه من أميركا، لان الدولة العظمى المسيطرة على عالم اليوم مازالت لم تقرر فيما اذا كانت ستغلب المبادئ التي تتحدث عنها مع المصالح التي قد تتأثر من ذلك.
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1187 - الإثنين 05 ديسمبر 2005م الموافق 04 ذي القعدة 1426هـ