في مقال الأمس كان الحديث عن أسباب فشل نظرية «تنشيط المجتمع المدني» لحد الآن عند مقارنة الوضع بما حدث في أوروبا الشرقية. ومن العوامل الأخرى التي أدت إلى عدم تحقيق تقدم ملموس هو التشتت في الطرح وانقضاض مجموعات محددة على برامج «تنشيط المجتمع المدني» التي توفرها المؤسسات الداعمة للديمقراطية في أميركا وأوروبا. بداية، وفي مطلع التسعينات، وجد الناشطون العرب من الاتجاهات اليسارية أن منظومة كاملة من أطر العمل السياسي بدأت تنهار مع انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي. اليساريون كانوا (ومازالوا) محترفين في مجالات العمل السياسي، وفهموا التغيرات واستطلعوا الواقع أمامهم، ووجدوا أن هناك مجالاً للنشاط على المستوى الدولي من خلال ما يسمى بـ «مؤسسات المجتمع المدني». وعلى وجه السرعة أعادت كثير من النخب اليسارية تشكيل نفسها في جمعيات لحقوق الإنسان ودعم المرأة والديمقراطية وغيرها، وطرحوا أنفسهم على أنهم الخيار النخبوي لتحريك وتنشيط مشروعات المجتمع المدني. وهكذا شهدت السنوات الاولى من التسعينات من القرن الماضي نشاطاً ملحوظاً لليساريين في مختلف المحافل التي تتحدث عن القضايا التي تعنى بها مؤسسات المجتمع المدني. كما استطاع اليساريون إعادة التوازن لأوضاعهم بسرعة من خلال إعادة صوغ برامجهم مع الأطروحات المستجدة التي تلقى دعماً مشروعاً في المحافل الدولية. الإسلاميون التفتوا لاحقاً إلى الفرصة ذاتها، وثار حوار داخلي في أوساطهم بشأن مفاهيم المجتمع المدني، وفيما إذا كان بإمكانهم أيضاً دخول ساحة النشاط المشروع في عدد من الاوساط الدولية. وفعلاً، التحق معظمهم بالركب وبدأوا ينافسون اليساريين في هذا المجال الحيوي. وعلى المستوى الفكري طرحت تنظيرات للتقريب بين المفاهيم التي تدعو إليها نظرية تنشيط المجتمع المدني بهدف تحقيق البيئة الديمقراطية. ولعل أكثر المقاربات الاسلامية التي طرحت بصورة قوية كانت مبادرة الرئيس الايراني السابق محمد خاتمي في العام 1997 عندما فاجأ قادة الدول الاسلامية الذين اجتمعوا في طهران لحضور اجتماع رسمي بالحديث عن «المجتمع المدني الاسلامي»، فطرح مفهوماً يقوم أساساً على إعادة دراسة ما حدث في «المدينة المنورة» على أساس «مدني»، وخلص في مقاربته إلى أن الرسول (ص) كان من أوائل من عمل بمفاهيم المجتمع المدني القائم على الاتفاقات والعقود واحترام حقوق الافراد والجماعات، وأن ذلك واضح في «صحيفة المدينة» التي اعتمدها الرسول (ص) عندما أعاد تشكيل الحكم والمجتمع في «يثرب» وأعاد تسميتها بـ «المدينة»، وهو ما يعتبر تأصيلاً لمفاهيم النشاطات المدنية المؤسسية. وعلى رغم أن المقاربات الاسلامية كانت قوية في الطرح، فإن الجانب الاقوى في تحرك الاسلاميين غلبت عليه النظرية التي تتحدث عن «الواجبات الدينية أولاً»، في مقابل الحديث عن «الحقوق المدنية أولاً»، وأن هذه الواجبات يقررها المختصون (الفقهاء)، وأن على «المؤمنين» اتباعها سواء اتفقت مع ما يطرح من نظريات مستحدثة أم لم تتفق. أطروحة المجتمع المدني تتحدث أساساً عن «المواطنين»، بمعنى الاشخاص الذين يستوطنون مكاناً ما وتصبح لهم حقوق مدنية (أو طبيعية) بحكم ارتباطهم مع أناس آخرين يعيشون معهم في المكان ذاته. أما النظريات الدينية (الإسلامية وغير الإسلامية) فإنها تتحدث أساساً عن «الرابطة الايمانية» بين هذا الشخص وذاك الشخص، سواء كان يعيش معه في مكان واحد أو في أماكن مختلفة. الاسلاميون الذين أعادوا طرح مفاهيم المجتمع المدني من وجهة نظر إسلامية قالوا بعدم التناقض بين «الرابطة المدنية» و«الرابطة الايمانية»، وإن الامام علياً (ع) قال «الناس صنفان، أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق». ولكن، على أرض الواقع بقيت الحساسيات قائمة من الطرح الجديد، وحتى خاتمي الذي كان يرأس واحدة من أهم الدول الاسلامية أحبطت كثير من جهوده في هذا المجال. وهنا تكمن إحدى المشكلات الحقيقية لدعاة نظرية «تنشيط المجتمع المدني». فالمجتمعات الاسلامية تسيطر عليها الاتجاهات الاسلامية بمختلف أصنافها، وإذا كانت هذه الاتجاهات تتحرك في المجتمع فإنها ستسيطر أيضاً على معظم ما هو متوافر من مؤسسات للمجتمع المدني، وخير دليل على ذلك ما حدث في مصر، ففيها استطاع الاسلاميون التنافس والفوز في مختلف المؤسسات التي يسمح بالتنافس فيها. وعليه، فإن دعاة «تنشيط المجتمع المدني»، وهم أساساً ليبراليون، عليهم التوصل إلى قناعة مشتركة مع الاسلاميين بشأن الاطروحات والمقاربات. مثل هذا التفاهم بدأت ملامحه تظهر في الفترة الأخيرة، ولكنها مازالت أضعف مما هو مطلوب لتنشيط المجتمع المدني بالمعنى الذي كان مطروحاً في مناطق أخرى (مثلما حدث في أوروبا الشرقية) التي استطاعت أن تنتقل إلى أجواء ديمقراطية، أو شبه ديمقراطية. وللحديث صلة.
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 1186 - الأحد 04 ديسمبر 2005م الموافق 03 ذي القعدة 1426هـ