بداية، يبدو السؤال المطروح بقوة هذه الأيام قد يكون هكذا: لماذا وصلنا إلى هذه المواصيل، وكأن القضايا تسقط على مجتمعنا من السماء فجأة من دون مقدمات؟، الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة، غير انها ليست صعبةً أيضاً، وسيكون في غاية البساطة لو جرت الأمور بتطوراتها الطبيعية لعبور المرحلة الانتقالية التي تحتاج إلى المرور على عدد من البوابات، أهمها: بوابة الاستماع الجيد إلى همسات الموجوعين من العاطلين، وضحايا التعذيب والتمييز، والمحرومين من السكن، إلى آخره من المشكلات التي ورثناها بتراكماتها من الإرث الماضي ولم يتم تحريك ملفاتها في صالح الناس الذين يئنون ويئنون بصمت، ويهمسون بصمت ولا أحد يسمعهم، حتى انفجروا بالصراخ على الأشياء التي لا تحتمل» فلو سمعت همساتهم لما صرخوا. نعم، لو سُمعت (بضم السين) همساتهم لما صرخوا. فقد كان العاطلون يعتصمون ويتظاهرون سلمياً هنا وهناك رافعين رغيف الخبز تارة، رمزاً للجوع والحرمان، وتارة أخرى يناشدون بصورة حضارية، وبوسائل سلمية لنيل حقوقهم من دون منّة من أحد، فلا أحد سمعهم ولا أحد جبر بخاطرهم. وعندما قرروا الاعتصام في منطقة معروفة ليس إحراجاً لأحد ولا هم يحزنون، بقدر ما هو لإيصال صوت أنينهم لعل أحداً يسمعها من قرب... ماذا كانت النتيجة؟ضرب وتكسير عظام في الشوارع واقتياد للمخافر. وتكرّر ذلك أيضاً أمام البرلمان، وكاد أن يقع الأمر ذاته أمام مبنى الحكومة، والمفارقة العجيبة انه بدل إيجاد الحلول السريعة والجدية لهذه الفئة المحرومة، خرج علينا كتّاب زمّارون «يخشون» كما يبدو، على تعطيل المرور وهروب الاستثمارات من البلاد في حال تشغيل العاطلين عن العمل، أو في حال السماح لهم بالتعبير سلمياً عبر التظاهر أو الاعتصام، وهي «بدعة» للأسف، كفلها ميثاق العمل الوطني والدستور والمعايير الدولية النافذة، إلا أن هؤلاء الكتّاب المستفيدين من «ذهب المعز»، لم يهدأ لهم بال إلاّ بتأييد الإفراط في استخدام القوة ضد من يطالب بحق من حقوقه، أو يطالب بالعمل والعيش الكريم. مرة أخرى، لو سمعوا همساتهم لما صرخوا. لماذا؟ لأنه لو امتلك المعنيون جرأةً في فتح ملفات «الأنين» الماضية وردع الذين انتهكوا الحقوق، لما تكرّرت أعمال تذكرنا بالمرحلة السوداء التي عشناها في «بحبوحة» قانون أمن الدولة، وقيام «مجهولين» بخطف شاب ناشط في لجنة العاطلين والاعتداء عليه ضرباً بالأهواز البلاستيكية والهراوات، وما تعداه من بشاعة مقزّزة تتعلق بالعرض والشرف، فيخرج علينا شاهد لينفي على طريقة: من يشهد للعروس، إن المعتدى عليه، وإن اعترف بالإصابات على مضض، إلا أن الأمر يحتاج إلى دقة وتدقيق أكثر، أقلها تشكيل لجنة محايدة للبحث في هذه القضية وأبعادها الخطيرة والشنيعة وتقديم مرتكبي هذه الفِعلة إلى العدالة، حتى لا تتكرّر مرةً أخرى، في عهد الانفتاح السياسي، ولا اتباع العادة «السرية» الكريهة القديمة التي كان فيها الخصم والحكم واحداً. الذين يطالبون الناس بقلب صفحة الماضي بهذه البساطة، أو الذين يطالبون الناس بنسيان الماضي الأسود، وإغلاق ملفات الفساد، وعفا الله عما مضى، لا أعرف لماذا يجب على المتضررين أن ينسوا كل المآسي، بينما لم ينسَ البعض أساليبهم القديمة، ويكرّرونها إلى يومنا هذا، وكأن شيئاً لم يكن؟ هناك دعوات تهدئة مشهود لها لإعمال العقل والحكمة في هذا الظرف بالذات، في مقابل ذلك، هناك دعوات تحرض على التفكير والوعي لما يحدث. التحريض على التفكير هنا، لا يعاقب عليه قانون العقوبات، ولا يوجد نص قانوني يحظر ممارسة الوعي والتفكير، أو يمنع الناس من استخدامه أسلوباً من أساليب العمل السياسي «السلمي» بغرض الفهم ليس إلاّ... وهنا نسأل مع السائلين: هل ما حدث، إذا صح حدوثه، أمرٌ طيبٌ للبحرين وسمعتها، أم إنه عمل مشين؟ هل المنظمات الحقوقية الدولية ستعتبر ما حدث إجراءً «طبيعياً وروتينياً» من ضرورات التطور الديمقراطي، أم تراجعاً مخيفاً وقلقاً في الحقوق العامة؟ ماذا لو حدثت هذه الواقعة في «زيمبابوي»، أو أية بقعة في العالم، هل ستقشعر لها أبداننا، أم ستغمرنا غبطة؟بالتأكيد لا نقبلها للغير، فكيف نرضى بها إن حدثت في مجتمعنا في هذا الوقت بالذات لتذكرنا بالمحاكم «الكنغرية» يوم كانوا يجرجرون الناس أو يقتلونهم تحت التعذيب أو خارج نطاق القضاء من دون حسيب أو رقيب؟، المسألة أكبر من ذلك إن لم نعرف ماذا نريد، بينما تشحن آذاننا صبح مساء عن دولة المؤسسات والقانون، فأي قانون يجيز لأية جهة كانت أن تخطف من تشاء وقتما تشاء، وتعتدي عليه بشناعة من دون ردع هذه الجهة، أو محاسبتها، أو الغضب عليها من قبل المجتمع؟ جماعة «لنا الحق»، ولها «الحق» عندما أقامت الدنيا ولم تقعدها على تعطيل «مصالحها» شهراً واحداً في رمضان، أليس للآخرين الحق أيضاً، في أن يقيموا الدنيا ولا يقعدوها أيضاً بسبب عدم إيجاد حلول سريعة لتشغيل العاطلين وغلق هذا الملف الثقيل، والوقوف ضد ممارسة أعمال شنيعة موروثة من الماضي الكريه وتذكرنا بالحقبة السوداء التي مازالت مخزونة في الذاكرة؟
العدد 1185 - السبت 03 ديسمبر 2005م الموافق 02 ذي القعدة 1426هـ