ما كان حتى الأمس القريب في دائرة الحدس والتخمين أصبح بعد تصريحات السفير زلماي خليل زاد يقيناً لا يقبل الشك أو الترديد، فالأميركيون باتوا على قناعة لا تقبل الدحض أو التفنيد بأنه حان وقت الرحيل من العراق وبأسرع وقت ممكن وبأقل الخسائر الممكنة لأن أميركا لم تعد تتحمل آثار حرب العراق على اقتصادها ونظامها الاجتماعي بعد الآن. والأخطر من ذلك هو أن يضطر الرئيس الأميركي الى الطلب من أحد أضلع «محور الشر» المساعدة للخروج من مستنقع أصبح من الصعب بمكان البقاء فيه يوماً واحداً إضافياً. يقول السفير الأميركي في بغداد زلماي خليل زاد، الأفغاني الأصل الذي سبق له أن جرب حظه في صناعة «زعيم» مؤهل لقيادة «ديمقراطية القبائل» في أفغانستان بمساعدة إيرانية ملحوظة، والذي عبّر حديثاً عن رغبته في تحقيق إنجاز مشابه في العراق من خلال البحث عن «قرضاي» عراقي كما ورد في أحد تصريحاته أنه «تلقى تفويضاً من الرئيس بوش للاتصال بالإيرانيين وطلب المساعدة منهم في الشأن العراقي»، ومن ثم يضيف السفير المفوض أنه مستعد «للتفاوض مع الجماعات المسلحة... لإشراك السنة العرب في العملية السياسية...»، إذا ما أريد لتلك العملية أن تنجح طبعاً، إن تصريحات السفير خليل زاد تفصح في الواقع عن مدى الحال المضطربة والمقلقة التي تعيشها إدارة الرئيس بوش في العراق في ظل تعاظم انعدام الصدقية والخلل المتزايد في صورة مشروعهم «التحرري» للمنطقة انطلاقاً من المثال العراقي، يقول الكاتب والمحلل السياسي الأميركي المخضرم توماس فريدمان في الموقف من الحرب على العراق في آخر رصد له لحال الرئيس الأميركي ومساعده ديك تشيني في هذا السياق بالحرف الواحد: «إن الكثير من الديمقراطيين والجمهوريين بدأوا في التصويت بـ «عدم الثقة» فيما يتعلق بأداء تشيني وبوش في الحرب مع العراق، وإذا كان نظامنا نظاماً برلمانياً لكان على بوش الاستقالة...». ويضيف فريدمان في مقاله الأخير في «نيويورك تايمز»: «... عندما أشاهد بوش هذه الأيام يبدو مثل رجل يتمنى إجراء التعديل رقم 82 على الدستور باسم (هل يمكنني المغادرة الآن) فهو يبدو مثل شخص يفضل العودة إلى مزرعته في تكساس...»، إنه وصف دقيق وشفاف جداً لحال الوهن التي يعيشها الأميركي في العراق منعكسة على ملامح بوش ومساعديه الذين يرصدهم توماس فريدمان... وهذه الحال هي التي دفعت بالإدارة المذكورة إلى التماس المساعدة من إيران بحيث تصبح «الشر الذي لابد منه» لا، بل تصبح كما ذلك الذي يصبح لسان حاله يقول: «وداوني بالتي كانت هي الداء،» وخصوصاً عندما نسمع التماس سفيره المفوض من المسلحين المساعدة أيضاً لإنجاح العملية السياسية، ولكن، لماذا إيران والمسلحون معاً؟ كما قد يخطر على بال المتتبعين، إذ هنا تكمن المفارقة. فالأميركيون يعرفون تماماً أن هذين العنصرين أو البعدين لا يتطابقان في المشهد العراقي، فكيف إذاً يمكن الجمع بينهما في مشهد الخروج الأميركي؟، إنها «استراتيجية الجلاء المنظم والمضمون» إذ لا أحد يستطيع أن يقدّر مدى الخطورة التي يمكن أن تواجهها القوات الأميركية وحلفاؤها فيما لو بدأت تنفيذ الرحيل وقد حانت ساعاته بحسب كل التقديرات. فإيران يمكنها أن تضمن تأمين عدم استحواذ الكتلة الشيعية الكبرى على زمام العملية السياسية التي باتت تمسك بمفاتيح اللعبة الرئيسية سلماً أو «حرباً». وأما المسلحون، فإن المطلوب منهم تقديم الضمانات الكافية بعدم استحواذ الجماعات «التكفيرية الزرقاوية» أو «الصدامية» على «المثلث السني» في حال تراخي القبضة الأميركية على العراق. ثمة من يقرأ الوساطة السعودية في حل المعضل السوري بخصوص التحقيق الدولي في اغتيال الحريري أيضاً كخطوة «تساهلية» أميركية لتأمين نجاح استراتيجية «الجلاء المنظم». وهكذا يكون مطلوباً من السفير الأميركي المفوض في بغداد الاتصال بإيران والمسلحين حتى يمر استحقاق الخامس عشر من ديسمبر/ كانون الأول المقبل في العراق كما في لبنان، إذ مطلوب من انتخابات العراق أن تسهل وتعجل في تفعيل استراتيجية «الجلاء المنظم والمضمون» تماماً كما يصبح مطلوباً من تقرير ميليس الجديد والمرتقب في 51 الجاري أن يساهم هو الآخر في «تبريد» المواجهة اللبنانية السورية بعض الشيء حتى لا تطغى تداعيات السخونة التي كانت منتظرة على مشروع «الجلاء المنظم والمضمون» الآنف الذكر. على أية حال، تظهر إيران في المشهد الأميركي الإقليمي مرة أخرى وكأنها الرقم الصعب الذي لابد منه في أية استراتيجية أميركية. وقد سبق للرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني أن أعلن أكثر من مرة ومنذ أن بدأت واشنطن التخطيط لغزو العراق، أن على واشنطن ألا تقع في مستنقع العراق من خلال غزوها العسكري له، لأنها ستصبح «رهينة» بأيدينا، وعندها ستضطر إلى طلب مساعدتنا. فهل أصبحت القوات الأميركية في العراق فعلاً «رهينة» السياسة الإيرانية؟، السؤال في عهدة زلماي خليل زاد الذي يحمل تفويض طلب مساعدة «المارقين» على من يعتبرون إدارة بلاده بمثابة «الشيطان الأكبر»؟، فهل يحمل خليل زاد إجابة واضحة وشفافة على هذا السؤال فعلاً؟، أي أنه يعرف تماماً ماذا يعني مثل هذا الالتماس؟، أم أنه «مأمور معذور» كما يقول المثل، أم أنها المفارقة الأخطر التي تحدث عنها أحد المحللين الأميركيين قبل فترة وسبق للبعض من المتتبعين لخفايا الصراع الأميركي الإيراني أن أشاروا إليها ألا وهي: «من يتحكم بقواعد اللعبة في بغداد، يأخذ من طهران ما يريد»؟
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1184 - الجمعة 02 ديسمبر 2005م الموافق 01 ذي القعدة 1426هـ