يقال دائماً للذي يمتهن السؤال والتسول، والطلب والتشكي من ضعف الحال، وكثرة المصروفات والعيال: دع عنك هذا وابحث عن سبيل آخر تنفق فيه جهدك وتوجه طاقتك خير لك من التسمر عند إشارات المرور، أو إهدار الوقت على أرصفة الطرق وأنت تمد يديك مستجدياً. يداك هاتان تستطيعان حمل ثقل الكون، وتحمّل مشاقه ومهماته الصعبة، ولا أدل على ذلك من قدرة بعض المتسولين على الوقوف ساعات طويلة في حر الظهيرة بحثاً عن فتات تجود به أنفس الكرام. المأساة هنا مركبة من أمرين، أحدهما جهد الفقراء الذي يثمر ذهباً لو صرف في غير هذا الوجه، والثاني قلة العطاء من الطرف الآخر، فالمسئول لا يعطي ما يشبع عادة، وإنما ما يسكت ضجيج ضميره أو يصرف السائلين عن متابعته. حال هذا السائل (أنجانا الله وإياكم من الفقر وأغنى كل محتاج) حال كل البكائيات التي تمعن في التمسكن على وجه هذه المعمورة، فهي بكائيات ترجو من وراء دموعها أن تحقق شيئاً، ولكنها لا تفلح غالباً، وحدهم الإسرائيليون استطاعوا أن يحولوا بكائياتهم إلى مشروع يرى النور ووجود يفرض نفسه على الواقع، فهم أكثر من يعتدي ويأخذ، وأكثر من يبكي ويتباكى ويتشكي مسكنته ومظلوميته للعالم. لم يكن بودي أن أستحضر هذا المثل الساقط ليكون ضمن المقدمة التي أفتتح بها مقالي، لكنني أريد توجيه الحديث إلى بكائيات أخواتي الكريمات (معاشر النساء) نصف مجتمعنا وشقائقنا، وكل خوفي أن يحترفن هذه المهنة وينشغلن بها بحثاً عن تعاطف القلوب التي اعتادت على سماع التعازي، وأحياناً بنت أمجادها عليه. أخاف فعلاً أن يمرّ الزمن والناشطات من نسائنا مازلن يشتركن في ندوات ومؤتمرات المران على إتقان مهارات التشكي واجترار الغبن والألم والانكسار النفسي، وخصوصاً حين يتطلعن إلى جوار تتحرك المرأة فيه بمبادراتها ومشروعاتها، لتحقق مطلباً هنا ومكسباً هناك، ولتنتقل من موقع إلى آخر وهي أكثر ثقة وعزماً على نيل كامل حقوقها. لقد أشارت ليندا جين شيفرد (LINDA JEAN SHEPHERD, PH. D) في كتابها «أنثوية العلم» متذمرة من طريقة المرأة في تعاطيها مع نفسها حين أنفقت جهدها لتثبت للعالم الذكوري أنها قادرة على ممارسة العلم، وكرست جهوداً أكبر من ذلك لتؤكد خطأ المعلومات التي كتبها الرجال عن بيولوجيا المرأة، ومع ذلك لم يقتنع الرجال بذلك. تقول الكاتبة مؤكدة أن كل تلك الجهود لم تفلح في تسويق الصورة العلمية للمرأة (بعض أشكال العبث جعلتني أضحك، مثلاً حين كتب صحافي تحقيقاً عن محاضرة ليزا ميتنر (L. MEITNER) وجعل عنوانها مشكلات فيزياء التجميل، إذ افترض ضمناً أن العنوان الفعلي وهو «مشكلات الفيزياء الكونية» لا يبدو لائقاً بامرأة). هذه السمعة المأسوية التي تعانيها المرأة على صعيد العلم لا تقل مأسوية عمّا تعانيه في وضعها الاجتماعي وتصديها للشئون العامة، ومخرجها الوحيد هو الاقتحام والتقدم والإصرار على أن تكون شريكة ومساهمة في تغيير وضعها ووضع مجتمعها إلى الأحسن. لابد للمرأة في المملكة العربية السعودية من مبادرة ومشروع يحسن وضعها ويرفع مستوى عطائها ويفرضها شريكة قوية في الحراك الاجتماعي والصيرورة التي تندفع إليها البلاد بخطى حثيثة، وحتى تصل المرأة الى واقع الشراكة لابد من حضورها بعد أن تنسلخ من صورتها القديمة، أعني التشكي والتحسر والخطابات التي لا تستند إلى مشروع مطلبي ومبادرة قائمة على توليد حراكها الدائم بطريقة ذاتية بحيث تتصاعد إلى هدفها من دون توقف وتلكؤ، لتلتف حولها بنات حواء فيُسرّعن بذلك الخطط والآراء المنصفة لهن من قبل الدولة والمجتمع. في هذا الصدد، هناك تجربتان قريبتان أولاهما في الكويت، إذ أصرت المرأة أن تكون شريكة في مواقع القرار العليا للدولة والمجتمع، فجهدت وعملت من أجل هذا المشروع، وكان لها حضورها الدائم والملح الذي لا يكلّ ولا يمل، وكان لها تحديها الذي تشهد به الأيام لأصوات المعارضة التي لم ترجُ أن ترى اليوم الذي تشارك فيه المرأة الكويتية في مجلس الأمة، لكن مشروعها الواضح وإصرارها الدائم ومبادراتها التي لا تعرف الضعف والتسول والتشكي أوصلتها إلى ما تريد. أما التجربة الأخرى فهي تجربة المرأة في البحرين مع ما عرف بـ «قانون الأسرة»، إنها تجربة حرية بالدراسة والتأمل، فالجهد الذي بذلته المرأة في مطلبها ليس قليلاً والمعارضة التي واجهتها ليست بسيطة، كما أن معاناة الطرفين العلماء والمرأة في سبيل الحصول على مخرج يمكن به صيانة تعاليم الدين من التحريف والتغيير كان حقيقياً وملحاً، وانضمام الشارع العام رجالاً ونساء في تبني هذا الموقف أو ذاك زاد من حساسية الوضع، لكن الإصرار والعقل والحكمة تمكِّن الجميع حتماً من تجاوز المخاض الصعب لهذا المشروع. إنني حين أذكر هاتين التجربتين فلدي الكثير من الملاحظات بشأن الأساليب التي اتخذتها المرأة في سبيل الوصول والتمكن مما تريد، وهذه الملاحظات هي حق من حقوقي التي لا أتصور أنها تزعج المرأة التي تطالب بحقوقها وتستميت من أجلها. كما أنني لا أرى أن تستنسخ المرأة السعودية تلك التجارب بحذافيرها ولا أن تعتمد أساليبها، ولا أن تستخدم الإثارات التي رافقت التجربتين في دولة الكويت ومملكة البحرين، فلكل مجتمع ظروفه وثقافته ومناخه الذي لا يتلاءم دائماً مع استنساخ الخارج، بل يتحسس منه أحياناً. كل ما أردت قوله هو أن تطوي المرأة السعودية فترة الاعتماد المبدع على رفع الشكايات والتظلم وتنطلق بمشروع ومبادرة ميدانية ليست مقتصرة على النخبة من النساء فحسب، لتصوغ لها مشروعاً تشاركها فيه غالبية النساء ومن مختلف الشرائح والمستويات والمناطق، وأن تعمل على تحقيقه وتمكينه بالطرق المتاحة في بلادنا، مراعية في ذلك ثقافة البلد ودينه ومعتقده
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1184 - الجمعة 02 ديسمبر 2005م الموافق 01 ذي القعدة 1426هـ