أمن الخليج كان مدار بحث في السنتين الماضيتين في الكثير من الندوات التي نظمتها مؤسسات فكرية تعنى بالسياسات الاستراتيجية. وفي الفترة الأخيرة عقدت مؤتمرات بإشراف معاهد أميركية وإقليمية تداولت موضوع الأمن والوسائل التي يمكن اعتمادها للمحافظة على استقرار منطقة حيوية للولايات المتحدة وأوروبا. وآخر الندوات كانت أمس الأول في الدوحة واليوم في المنامة. حتى الآن لم تأخذ الأفكار صيغتها النهائية ولم يتفق عليها رسمياً. فهي تعتبر مجرد تفكير بصوت عال في قضايا إقليمية تمس أمن ومصالح الدول الكبرى. ولذلك يتوقع أن تتبلور تلك الآراء في مشروعات واضحة تحدد المهمات والمتطلبات والأهداف والوسائل. وهذه النقاط لاتزال قيد البحث على رغم وجود خطط جاهزة وسيناريوهات مكتملة في تجهيزاتها وأدواتها. ماذا يعني البحث في أمن الخليج في هذا الوقت؟ ولماذا تعتبر الدول الكبرى أمن الخليج من أولوياتها الاستراتيجية؟ الأجوبة معروفة وكلها تتصل بمسألة النفط والغاز والمعابر وخطوط الإمداد. إلا أن هناك مجموعة نقاط تضاف إلى هذه الأجوبة البديهية وهي في معظمها تتعلق بأمن المنظومة الإقليمية وموقعها الجغرافي في التوازنات الدولية. فالموقع الجغرافي الذي يتوسط القارات الثلاث (آسيا، إفريقيا وأوروبا) يعطي أهمية مضافة لحيوية المنطقة في سياق التوازن الدولي. كذلك تعتبر دائرة الخليج مساحة واسعة للاستثمار والتوظيفات وحلقة مهمة في نقل البضائع (التجارة) وحركة الأموال. المنطقة إذاً تتمتع بمجموعة مواصفات ترفع من قيمتها وحيويتها في إطار المخاوف الدولية من احتمال تعرضها لاختراقات أو هزات أمنية. وهذه الأمور مجتمعة فرضت على مؤسسات البحث والمعاهد الاستراتيجية تنظيم لقاءات وندوات ومؤتمرات للاطلاع على حاجات المنطقة ووضع الخطط الواقعية للتعامل معها على مستويات مختلفة. في السابق كانت الدول الغربية تنظر إلى دول الخليج العربية من زاوية أمنية، ولذلك اختزلت حاجات المنطقة في نطقتين: النفط ووسائل حمايته والوجود العسكري وتأمين خطوط الإمدادات. الآن أخذت الأمور تتسع وبدأ البحث يتطرق إلى الكثير من النقاط المتصلة بالمنظومة السياسية وطبيعة المنطقة الثقافية وعلاقات الدول ببعضها واتصال تلك الدول إقليمياً. وهذا التوسع في الرؤية الاستراتيجية للمنطقة يفسر أسباب هذا التنوع في عناوين الندوات والمؤتمرات. فالمعاهد التي تشرف أحياناً على تنظيم تلك اللقاءات لم تعد تقتصر قراءاتها على موضوع النفط وحمايته أمنياً، بل بدأت تهتم بالكثير من القضايا المتصلة بالعادات والتقاليد والثقافة العامة وطبيعة الأنظمة وموقعها ودورها وغيرها من أمور حيوية. هناك إذاً نظرة دولية جديدة لمنطقة الخليج بدأت تشق طريقها وسط مراكز القرار في الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي. وهذه النظرة لا تتجاوز مسألة النفط وعلاقتها بنظام الحماية الأمنية ولكنها تتناول إلى جانبها الكثير من الأمور التي ترى فيها معاهد البحث قواعد مهمة وحيوية لضمان الاستقرار. فالدائرة الخليجية تشهد نهضة عمرانية وتنمو من داخل تكوينها الاجتماعي طبقة وسطى متعلمة ومثقفة تبحث عن موقع في مكان ما. ومجرد نمو طبقة وسطى في حيز سكاني يتمتع بثقافة موروثة وعلوم مكتسبة يعني احتمال بدء حراك اجتماعي يحمل معه تصورات تطمح نحو تحديث البنية السياسية لدول المنطقة. ربما تكون هذه النقطة واحدة من أهم الدوافع التي ضغطت على المعاهد الاستراتيجية في الولايات المتحدة وأوروبا بإعادة تقييم النظرة السابقة وتوسيع قاعدتها لتشمل الكثير من البرامج المتصلة بتحديث البنية الفوقية (أنظمة ودساتير) لتتناسب مع تطور البنية التحتية التي حققتها دول المنطقة. وهذا يعني ربط التحديث الاقتصادي بجملة تصورات لا ترتبط بالضرورة بتلك الأطر والقنوات السابقة المتفق عليها عرفياً. إلى هذه الرؤية الجديدة يمكن إضافة عناصر أخرى تتعلق أيضاً بتطور نظرية الأمن التقليدية التي اعتمدها الغرب خلال عقود ماضية. فنظام الحماية يحتاج أيضاً إلى مفهوم متقدم يتصل بمصالح الناس المحلية وتطلعاتهم ودورهم في صناعة المستقبل. فالمستقبل يحتاج إلى تلك القوة البشرية النامية (طبقة وسطى مثقفة ومتعلمة) تعطي شرعية لتطوير أنشطة العمل والمشروعات الحيوية. أمن الخليج إذاً يشهد بدايات تغيير يتصل بنظام جديد للأولويات. وهذا النظام يحتاج إلى بلورة ليتكيف مع حاجات المنطقة ونموها الاقتصادي (العمراني) الذي لم يتوقف خلال العقود الأربعة الماضية. ولعل هذا الأمر يفسر كثرة المؤتمرات والندوات واللقاءات للبحث عن صيغة أولويات جديدة لا تبتعد كثيراً عن الفكرة السابقة: حماية النفط