سؤال «من أين تأتي المعرفة؟» تجنبت النخب العربية «الحداثية» الإجابة عنه. وحين حاول البعض قراءة جوانب من السؤال لجأ إلى التحايل الايديولوجي على التاريخ حتى يعطي شرعية لتلك الردود الجاهزة التي نقلها عن الكتب الأوروبية. من أين تأتي المعرفة سؤال بديهي يجب التوقف عنده حتى تستطيع النخب العربية «الحداثية» تجاوز المأزق الذي وصلت إليه وأوصلت الأمة معها إلى كارثة متعددة الوجوه. كيف تأتي المعرفة، وما هي مصادرها، وعلى ماذا تعتمد، وأين تتصل بالتاريخ والفضاءات العمرانية (الاجتماعية) ومتى تنفصل عنه وتستقل عن قوانينه؟ كل هذه الأسئلة أسقطتها النخب العربية «الحداثية» حين قرأت المعرفة الأوروبية وحاولت أن تقلدها في فكرها وفنها وفلسفتها. فالنخب المبهورة (المندهشة بإنجازات الغرب) أخذت بالنتيجة وأهملت المقدمات. وبسبب هذا القطع المعرفي/ التاريخي بين مقدمة الموضوع ونهايته خلطت الأفكار ونسجت على منوالها وفشلت في إعادة إنتاجها في ضوء المتغيرات والفضاءات المختلفة وانتهت أخيراً إلى خواء ايديولوجي يخبط خبط عشواء. الفكر والفن والفلسفة وكل ما تفرع من إنجازات أوروبية قرأت النخب العربية عناوينها ولم تدرس أسبابها ومسبباتها. وأدى هذا النوع من الاتصال المتقطع بين «التابع والمتبوع» إلى ظهور توهمات أيديولوجية تتماهى مع الآخر من دون إدراك لتلك الفجوة الزمنية (العمران البشري) التي تفصل بين العرب والغرب والإسلام (في صيغته الراهنة) وأوروبا. هذا الوعي اللاتاريخي الذي اعتمدته النخب العربية لقراءة تطور المعرفة الأوروبية أنتج سلسلة أفكار لا تاريخية فشلت في التعامل مع واقع مغاير وأنماط اجتماع مختلفة. فالفكر والفن والفلسفة في النهاية لا تأتي مباشرة من الكتاب أو من عقل فيلسوف أو عمل فنان بل إنه نتاج مصادر مركبة من الكلاسيكيات (الموروث التراثي) ومشتقة من حركة الواقع وآلياته العمرانية وأخيراً من مخيلة تضع تصورات إصلاحية ومستقبلية. وهذا النوع من التطور الفكري لا يقفز قفزاً بل يتراكم معرفياً وتاريخياً ويتأثر سلباً وإيجاباً بالفضاءات الثقافية والسياسية والكونية التي يمر بها المفكر والفنان والفيلسوف. فالفكر هو نتاج تراكمات وحلقات موصولة زمنياً وحين يتوصل المفكر إلى درجة من الاستقلال النسبي عن الواقع يبدأ في التأثير عليه. وكل فلاسفة أوروبا الكبار مروا في هذه التحولات وانتقلوا أو ارتقوا الدرجات خطوة خطوة. فكل فيلسوف هو نتاج عصره وخلاصة ذهنية متقدمة عن عصر غيره أو من سبقه. ولهذا تنوعت الفلسفة الأوروبية واختلفت وتطورت وتفرعت ولكنها كلها في المجموع العام تدين لتلك الحضارات السابقة من يونانية ورومانية وجرمانية ومسيحية وأندلسية (عربية/ إسلامية). أوروبا المعاصرة ليست بعيدة عن أوروبا القرون الوسطى، كذلك ليست منفصلة زمنياً عن أوروبا في عهد الحضارات المتوسطية. كذلك علوم أوروبا وفنونها ومدارسها الفكرية والفلسفية لم تكن بعيدة عن تلك الموروثات التي تجمعت في لحظة زمنية وأعيد إنتاجها في ضوء متطلبات العصر وحاجات القارة في فترة نهوضها التاريخي. الفكر الأوروبي الحديث بدأ يتبلور في عهد توما الأكويني في القرن الثالث عشر الميلادي. وتوما قديس في تاريخ الكنيسة (رجل دين) وهذا لم يمنعه من لعب دور خاص في الدفاع عن المسيحية وإعادة تفسيرها في ضوء حاجات العصر (عصره). هذا القديس تأثر بالفلسفة العربية/ الإسلامية واطلع على كتابات الإمام الغزالي والقاضي ابن رشد وتعلم منها ثم انتقدها ليعيد تركيب منهجه الخاص في التوفيق بين المسيحية والفلسفة اليونانية. بعد الأكويني جاء جون دينس سكوتس من اسكتلندا وعاصر نهايات القرن الثالث عشر وبدايات القرن الرابع عشر الميلادي واشتغل على الفلسفة الإسلامية/ العربية وتأثر وعارض كتابات الأكويني ومحاورات اوغسطينوس بشأن «مملكة الله». وبعد سكوتس جاء وليم أوكهام وهو فيلسوف إنجليزي راديكالي من مقاطعة أوكهام (سيري). وبدوره قدم سلسلة إضافات ونقاشات في ضوء المحاور المعرفية التي تأسست في زمن بدأت أوروبا تعيد اكتشاف نفسها. وأوكهام الذي توفي في العام 1349م (750هـ) لم يشهد تلك التحولات الكبرى (الاكتشافات الجغرافية) التي ستدخلها أوروبا في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي. لذلك اقتصرت مفاهيمه على مجموعة إضافات على تلك المحاور المتعلقة بالدين والفلسفة، والعقل والخالق، والمعرفة وشروطها وهي كلها كانت تدور في حلقات ممتدة من الحضارات القديمة إلى الحضارة العربية/ الإسلامية في الأندلس. كانت الفلسفة آنذاك مجرد قراءة في التفكير والواقع وعبارة عن مجموعة آراء. لم تكن الفلسفة تطورت بعد إلى منهجية (آليات تفكير) إلا في حدود معينة وتحت سقف الإنجازات الإبداعية أو النقلية التي حققها فلاسفة الإسلام من الفارابي وابن سينا والغزالي إلى ابن طفيل وابن رشد وابن خلدون. آنذاك بدأت أفكار (مقدمة) ابن خلدون تنتقل إلى أوروبا ولكن جانبها السياسي لم تقدر قيمته المعرفية وتكتشف إلا حين ضغطت الحاجات الجديدة على الممالك (المدن التجارية) الأوروبية وأخذت تتطلع نحو فكر سياسي يتناسب مع تحولات طرأت على نظام الاتصالات والمواصلات. كذلك اكتشف رجال الدولة في عهد السلطنة العثمانية أهمية أفكار ابن خلدون السياسية وترجموا كتاباته إلى العثمانية إلا أن الخطوة جاءت متأخرة في سياق السباق الزمني مع أوروبا. في هذا الوقت ولكل هذه الأسباب ظهر في أوروبا الفيلسوف والمفكر السياسي نيكولا مكيافيلي في نهاية القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر. فهذا الفيلسوف السياسي اكتشف مفهوم الدولة المعاصرة (عصره) في كتابه «الأمير». والأمير استفاد كثيراً من نظريات ابن خلدون عن الدولة والعمران وصلة الاجتماع بالمؤسسات (التقليدية والدينية) واتصالها بالوقائع الجارية. ولولا كتاب «المقدمة» لابن خلدون لما استطاع مكيافيلي إنتاج «الامير» في صورته الحالية على رغم أنه ابتكر طريقة خاصة (بعيدة/ قريبة) مستلهمة أفكار الفيلسوف الاجتماعي/ السياسي المسلم. جاء كتاب «الأمير» في لحظة تاريخية دقيقة. فأوروبا آنذاك كانت حققت اكتشافاتها الجغرافية الكبرى ودارت حول إفريقيا وصولاً إلى الهند والصين واتصلت بالعالم الجديد (أميركا) وعدلت موازين القوى لمصلحتها وأسقطت المدينة الأخيرة في الأندلس (غرناطة) في العام 1492م (898هـ). كذلك جاء الكتاب بعد بدء مارتن لوثر حركة الإصلاح الديني (البروتستانتيه) في العام 1516م (922هـ). فصاحب الكتاب ميكافيلي أعطى قادة المدن البحرية (الممالك) كل ما يحتاجونه من فكر سياسي للتعامل مع الواقع وبناء دولة تنسجم مع تلك التحولات التي تركت آثارها الاجتماعية على العمران الأوروبي. هذا الفكر السياسي الجديد (اكتشاف مفهوم الدولة ودورها) تأسس على قواعد العمران ولم يثمر إلا بسبب بدء القارة رحلة الصعود والتقدم. بينما فكر ابن خلدون الذي تحدث عن الدولة بصفتها صورة العمران (البنية الفوقية لمادة الاجتماع) لم يحقق المراد منه بسبب بدء رحلة نزول العالم الإسلامي وتدهور عمرانه من الأعلى إلى الأدنى. فرجال السلطنة العثمانية استفادوا كثيرا من «المقدمة» إلا أن محاولة التكيف جاءت في زمن انقلبت فيه التوازنات لمصلحة أوروبا الجديدة. وبسبب هذه التحولات واختلاف درجات النمو بين حضارة هابطة وحضارة أخذت تستعيد عافيتها التاريخية/ العمرانية بدأت المعرفة الأوروبية بالازدهار والمعارف الإسلامية بالذبول تدريجياً. والنخبة العربية «الحداثية» في آخر المطاف هي نتاج ذاك الانهيار والتفكك والتخلف الذي الحقه الزمن بالعالم الإسلامي على امتداد القرون الخمسة الأخيرة. سؤال «من أين تأتي المعرفة؟» تهربت النخب العربية من طرحه أو على الأقل تجاهلته وتجنبت الإجابة عنه لأنه يتطلب منها عملية ربط بين الواقع والفكرة وبين العمران والدولة وبين الفلسفة والتاريخ. وهذا لا يتم من دون وعي التراكم المعرفي/ التاريخي واكتشاف آليات الربط بين الكلاسيكيات (التراث والموروثات) وحاجات العصر وتحولاته. فالسؤال معرفي وليس ايديولوجياً، ولهذا يتطلب قراءة في التاريخ وآليات التطور واتصالها بقوانين صعود الأمم وهبوطها. وهذا مجال آخر للبحث المعرفي ومشتقاته وما يسلتزمه من تأصيل لمصادره التاريخية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1183 - الخميس 01 ديسمبر 2005م الموافق 29 شوال 1426هـ