يرجع اللغويون أصل كلمة «درويش» إلى اللغة الفارسية، ويقولون انها مكونة من كلمتين: (در: باب)، و(بيش: أمام)، ومعناها حرفياً «الواقف أمام الباب». وقد قام العرب بقلب حرف الباء واواً، في وقت أصبح الدراويش في عهد الانحطاط الإسلامي طبقةً يقفون على الأبواب مستعطفين، يطلبون الصدقة والطعام. صدام حسين في الجلسة الثانية من محاكمته، أجاد لعب دور «الدرويش» بامتياز. فهذا الرجل الذي استعبد الشعب العراقي وقاده من حرب إلى حرب، ومن دمار إلى دمار، وأحرق خيرات العراق، وحوّل العملة العراقية إلى حزم من الأوراق عديمة القيمة... خرج لنا في هيئةِ درويش عصريّ جديد، صدام الذي لم يكن أحدٌ يجرؤ في العراق على أن يسميه بأقل من «سيادة الرئيس المهيب الركن صدام حسين»... أنزله الدهر ثم أنزله إلى أن أصبح يخاطب القاضي العراقي بعبارة: «حضرة القاضي»، الرئيس الذي كان يقود 25 مليون عراقي لمدة 25 عاماً بالقيود والأغلال من دون مشورة من أحد، أو مراجعة أحد، أو احتجاج أحد... شكا سيادته لهيئة المحكمة يوم الاثنين الماضي من وضع الأغلال في يديه وقيادته إلى المحكمة بـ «الكلبشات»، الرئيس المهيب الذي نزع أرواح ملايين البشر، عراقيين وإيرانيين وكويتيين، وسلب الحياة الكريمة من الملايين، بإيداعهم في السجون وإرسالهم إلى المنافي طوعاً وقسراً... أصبح يحتجّ لأن أفراد الأمن نزعوا منه أقلامه وأوراقه قبل المحكمة، الرئيس الذي ضاق عليه العراق حتى أرسل جيشه للاستيلاء على الكويت وشطبها من الخريطة وشرّد أهلها منها، أصبح مشرّداً، يرفض مقابلة عائلته لئلا تتأثر نفسياتهم الرقيقة لمرآه وهو واقفٌ في قفص الاتهام مع ستة من أزلامه السابقين. الرئيس الذي كان يستزيد من بناء القصور، بينما كان الشعب العراقي يزداد فقراً ومرضاً ومعاناةً تحت الحصار الأميركي الظالم... أصبح يتألم لأن «قساة القلب» تركوه يركب في «مصعد معطّل»، ولإكمال دور «الدرويش» المحترف، كان لابد من بهارات «دينية» لإضفاء اللمسات الأخيرة على صورة الرئيس «المؤمن»، الذي زادت ذات يوم جرعة حماسته وغطرسته فادعى أنه من نسل سيدنا الحسين، ولأنه لم يكن هناك أحدٌ يمكن أن يردّ عليه... فإنه استمر في المسرحية السمجة حتى المشهد الأخير. ولأن سيادة الرئيس اعتاد على دغدغة مشاعر «جماهير أمتنا العربية الباسلة» طوال ثلاثين عاماً، كان لابد من الضرب على هذا الطنبور المثقوب من جديد: «القرآن في يدي وأنا مكبل بالقيود»، وعلى رغم كل ما يقال عن صدام حسين، فإنه رجلٌ محظوظ جداً، فبعد كل ما اقترفته يداه من جرائم بحق الشعب العراقي والشعوب المجاورة، وجد من يرقص في الشوارع العربية هاتفاً باسمه، من جماهير أمتنا العربية، ووجد 600 محام عربي مستعدين للدفاع عنه كرئيس شرعي انتخبه العراقيون بنسبة 100 في المئة، وفوق ذلك، وجد وزيرَيْ عدل كبيرين، عربي وأميركي، تطوّعا للذهاب إلى بغداد وتجشّما أعباء السفر للدفاع عن سواد عينيه... فهل كتب على جيلنا مرةً أخرى عودة أمجاد عصر الدراوي
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1183 - الخميس 01 ديسمبر 2005م الموافق 29 شوال 1426هـ