حذر آية الله السيّدمحمدحسين فضل الله، من الخرافة التي تحاول الإدارة الأميركية فرضها على الأمة، مشيراً إلى أن الرئيس الأميركي يحاول أن يجتذب صغار العقول عندما يتحدث عن لبنان كنموذج يُحتذى في الديمقراطية، وقال إن فرادة لبنان وحيويته السياسية انطلقت منذ ولد كمعادلة دولية تختزن عوامل التغيير المنفتح على الشرق والغرب. مشيراً إلى خطورة «الخرافة الداخلية» التي جعلت الكثيرين يتعاطون مع الرموز السياسية والطائفية الفاشلة وكأنها القضاء والقدر للبنانيين. جاء ذلك رداً على سؤال في ندوته الأسبوعية عن موقف الإسلام من الخرافة الاجتماعية والسياسية: وفيما يأتي نص الجواب: ركّز الإسلام على العقل كقيمة أساسية ومعيار رئيسي في الجانب الاعتقادي والإيماني بما ينفتح على معرفة الله والإيمان بيوم القيامة، كما أنه أراد للعقل أن يكون المصفاة الأساسية التي تُنقّي التراث وتضبط حركة الفكر ضمن الأطر العلمية والموضوعية. وفي ضوء ذلك، كان من الطبيعي أن يرفض الإسلام كل الأمور التي لا ترتكز على العقل، وتنطلق في ضوء العاطفة أو الغريزة والانفعال. وفي هذا السياق رفض الإسلام الخرافة كونها لا تمثّل حقيقة ولا ترتكز على علم أو دليل، وإنما تتحرك في نطاق مصادرة العقل، ومن خلال بعض الأوهام التي ينسجها الخيال الإنساني. إننا نعتقد بأن ثمة رابطاً وثيقاً بين الخرافة والجهل، فحيثما انتشر الجهل تتفشّى الخرافة، بينما نجد المجتمع الذي يأخذ بأسباب العلم تهجره الخرافة أو تعيش في مساحات ضيقة ومحاصرة منه. وربما انطلقت الخرافة في واقعنا الإسلامي على أساس الفهم الخاطئ للغيب والمبالغة في تفسير القضايا الكونية وبعض الأمور المتعلقة ببعض مخلوقات الله كالملائكة والجن تفسيراً يخرجها عن دائرة العقل ويدخلها في دائرة من دوائر الجهل ليضفي عليها هالة تجعلها غير مفهومة في الأذهان العامة، ومن هنا كثر وجود المشعوذين والمتاجرين بالدين والعرّافين وغيرهم ممن يدّعون صلة بعالم آخر تمكنهم من القيام بأمور غير اعتيادية، الأمر الذي أدى إلى تخلّف الأمة إلى حد بعيد وتقديم صورة مشوّهة عن الإسلام في اعتباره لدى الكثيرين مسئولاً عن هذا التخلّف الذي يعمل على محاربة الأعداء بالأحراز والرقى والتمائم بدل أن يعمل على محاربتهم وفق القانون الإلهي: «وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة». (الأنفال: 60) إن الغيب يمثّل جزءاً من شخصيتنا الإيمانية، في نطاق القضايا الإيمانية المرتبطة بالله واليوم الآخر، ولكن في ما يرتبط بالحياة الدنيا في شتى مجالاتها، فإن الله تعالى أرادنا أن نتحرّك فيها على أساس السنن الكونية التي ترتبط بأسباب مفهومة وعلل يمكن اكتشافها والإفادة منها. وثمّة سبب آخر يقف وراء تفشّي الخرافة في أوساطنا ويعود إلى الانحطاط السياسي والاجتماعي الذي أصاب الأمة من خلال الاستكبار والاستعمار الذي عمل على تجهيلها وتضليلها ومصادرة عقولها ورعاية مواقع الخرافة ومواجهة مواقع العلم والإبداع فيها، الأمر الذي ساهم في تراجع الأمة وخضوعها لثقافة الانحراف، وبالتالي لمشروعات المستعمر ومخططاته. لقد عمل الإسلام جاهداً على محاربة الخرافة، إذ حرم المداخل التي من شأنها تنمية الخرافة أو العقل الأسطوري، فحرّم السحر والشعوذة والكهانة والتنجيم، وقد عرف عن النبي (ص) عندما توفي ولده إبراهيم وصادف كسوف الشمس في ذاك اليوم، وقال الناس: كُسفت الشمس حزناً على إبراهيم قوله (ص): «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يُكسفان لموت أحد من الناس». ولهذا فإن على العلماء وعلى الطليعة الواعية في الأمة أن تعمل لمواجهة الخرافة التي تزحف على وسطنا الديني والاجتماعي وحتى السياسي من خلال تنمية العقل العلمي والتركيز على الأسس المعرفية والمنهجية الصحيحة في تفسير حركة التاريخ والظواهر الكونية. كما علينا أن نعمل على محاصرة الخطاب الخرافي الذي ينمو كالفطر في مواقعنا الدينية والمذهبية، وأن نفسح المجال أمام الخطاب العقلاني المنفتح على رحاب العلم وعلى الحقيقة الدينية غير القابلة للتشويه، حتى ولو أدى ذلك بنا إلى أن نخسر الكثير من الأصوات أو من المنتمين على مستوى المرحلة، لأن ما نكسبه على مستوى الأجيال وفي مستقبل الأمة هو الربح الأكيد الذي يحسب في رصيد الإسلام وفي حركته العلمية الممتدة في رحاب الحقيقة. إن علينا أن نلتفت إلى أنه إلى جانب الخرافة التي تنمو في أوساطنا الشعبية أو الرسمية أو السياسية، ثمة خرافة أخرى تحاول أن تفرض نفسها على الأمة من خلال الدوائر الغربية وخصوصاً الأميركية التي تريدنا أن نعتقد جازمين بأن ما نعانيه من آلام ومشكلات إنما انطلق من خلال معتقداتنا ومفاهيمنا وإسلامنا لتدفعنا إلى التنازل عن هذا الإسلام لحساب ما تقدمه من دين جديد يلبس لبوس الديمقراطية وهو أقرب ما يكون للدكتاتورية المغلفة بعناوين إعلامية وسياسية فضفاضة. إن ثمّة خرافة سياسية كبرى يحاول الرئيس الأميركي أن يجتذب بها صغار العقول عندما يتحدّث عن لبنان كنموذج يُحتذى في الديمقراطية ليوحي للعالم بأنه هو الذي صنع لبنان الديمقراطي، والحال أن الجميع يعرف أن لبنان الذي يمثل حالة فرادة في المنطقة يعيش في نطاق الحركة السياسية والحيوية الفكرية والتغييرات الميدانية منذ أن انطلق كمعادلة دولية تختزن عوامل التغيير المنفتح على الشرق والغرب بكل العناوين المعقدة والفضفاضة. ولكننا في الوقت نفسه نحذر من أننا في الداخل نعيش نوعاً من أنواع الخرافة السياسية التي جعلت الكثيرين يتعاطون مع الرموز السياسية والطائفية الفاشلة وكأنها القضاء والقدر للبنانيين، ربما لأن اللبنانيين لم ينطلقوا كشعب واحد في مسألة التغيير، بل كشرائح متعددة تحسب حساباتها المذهبية، فتطلّ من خلالها على المسألة السياسية إطلالة انكسار بدلاً من أن تحمل معاول الهدم لتسقط الواقع الفاسد على رؤوس صانعيه، ولتحاسب الذين أجرموا بحق البلد عندما جعلوه مزرعة للآخرين، ومازالوا يجرمون بحق شعبه عندما يتطلعون إلى ما يريده المستكبر بعيداً عما هي روحية الاستقلال الحقيقي وبعيداً عن كل عناوين الوطنية الصادقة. إن علينا أن نتحرك جميعاً في خط دعوة الأجيال اللبنانية الشابة التي تعيش طهارة القلق في تطلعها للمستقبل، لكي تدخل في عقد اجتماعي وسياسي جديد، يعمل على نبذ الفاشلين ورفض المذهبيين والمنغلقين ليفسح المجال أمام ولادة جديدة لعقل لبناني منفتح يواجه الخرافة السياسية أو الدينية أو الاجتماعية، وينفتح على لبنان كموقع من مواقع الإنسانية الرافضة لأي وصاية وأي رعاية تحمل عنوان الرحمة وفي داخلها العذاب والموت الزؤام
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1183 - الخميس 01 ديسمبر 2005م الموافق 29 شوال 1426هـ