في حقيقة الأمر، تعاونت دمشق مع ميليس وجماعته في لجنة التحقيق الدولية أم لم تتعاون، لا فرق. فالأمر محسوم على ما يبدو، قرار الإدارة الأميركية بضرورة معاقبة سورية تم إصداره. الأميركيون لم يعودوا قادرين أو راغبين في متابعة الحلول الدبلوماسية مع دمشق، وأصبحت مسألة تفعيل البند السابع في مجلس الأمن «والذي يعطي ضوءاً أخضر لفرض عقوبات اقتصادية أو حتى عسكرية» مسألة يقررها الألماني ميليس في أية لحظة يختارها، وصيغة «رفضت التعاون» أو «لم تتعاون» فضفاضة حد الكفاية. الأميركيون هذه المرة يلعبون براحة أكبر سياسياً تجاه معاقبة سورية، ولعلها أفضل الأوقات على الإطلاق للقيام بهذا الخيار، ففرنسا التي تتمتع بعلاقات مميزة مع حلف الرئيس المغتال (الحريري) لن تعارض أي إجراء مستقبلي من قبل مجلس الأمن ضد سورية، وخصوصاً إذا ما ذهب التقرير النهائي لميليس إلى أن سورية هي «الفاعل». وكذلك الألمان، فقوميتهم «الجرمانية» تمنعهم في المطلق أن يهاجموا تقريراً أمنياً صاغته يد «جرمنية طاهرة»، لذلك كان ميليس (الألماني الجنسية) بالتحديد، وليس أي محقق دولي آخر هو الخيار الأمثل واليد الأفضل التي تسعى الولايات المتحدة من خلالها إلى أن تدك أسوار دمشق العاتية. الرئيس بشار الأسد لم يستطع أن يقنع أحداً حتى الآن بأنه قادر على إدارة المرحلة والخروج بنظامه سالماً من هذه الأزمة، ولعل هذه الأزمة إن صحت روايات ميليس بمثابة الضربة القاضية لآخر معاقل البعث والقومية العربية، لابد أن نلاحظ عن كثب تلك الفرص الذهبية التي فوتها الرئيس بشار الأسد ليلعب دور «الرئيس الإصلاحي الشاب» كما هي الحال مع الكثير من الرؤساء العرب هذه الآونة، ولابد أن نفهم أن ذلك الاقتناع الذي لا يصاحبه أي شك من لدن المخابرات الأميركية والذي يذهب إلى أن الإرهاب في العراق منبته «سورية» قد عجل من قرار الحسم تجاه دمشق الداعمة للإرهاب والمساهمة في قتل الجنود الأميركيين بالعراق. هذه البوتقة من الأخطاء الاستراتيجية فوتت على «الرئيس الأسد الصغير» أن يكون ببساطة رهاناً أميركياً شأنه شأن بقية الرؤساء والحكام الجدد للدول العربية. اختار الأسد الرهان على فرنسا وألمانيا والدول العربية، فليس من المعقول أن تسمح كل من ألمانيا وفرنسا بضربات عسكرية أميركية ضد سورية، والعرب لن يقبلوا بأن يمتد مسلسل الحرب على الإرهاب حتى دمشق، وشجعه على ذلك بعض الإعلاميين، إلا أن الأميركيين استطاعوا أن يقلبوا كل هذه العوامل لمصلحتهم بطريقة ولا أذكى... فميليس «الألماني»، وصداقة الرئيس الفرنسي شيراك مع عائلة الحريري التاريخية، جعلت المعادلة مقلوبة، وبقى «العرب» رهان الأسد الاخير... وهو من دون أدنى شك أو ريبة «رهان الخاسرين،». طريقة واحدة فقط أمام سورية لتنفك من هذا السحر الأميركي، وهي طبعاً «الخيار المر» لكل رئيس عربي، هذه الطريقة تتمثل في حال انتقال سياسة شاملة للجمهورية السورية، من جمهورية «الخوف» إلى جمهورية الديمقراطية والتعددية، من جمهورية «حزب البعث» صاحب المهمات الرسولية إلى جمهورية الأحزاب المتخالفة على اكتساب ثقة الشارع كل ببرنامج، لابد أن تفعل سورية مرحلة سياسية جديدة تشترك فيها جميع الأطياف السياسية السورية على اختلاف مشاربها وتصنيفاتها «وعمالاتها»، لا يهم. المهم أن تستطيع سورية تسوية هذه الأزمة التاريخية التي تمر بها اليوم إن هي سلكت الخيار الأول، أما إن اختارت القيادة السورية وهو الظاهر لنا اللعب بالسياسة والمماطلة، فأياً كانت آفاق هذا اللعب السياسي فلن تفلح في التملص من الاميركيين ولن تتمخض دبلوماسيتها عن شيء مفيد، فالمسألة في حقيقتها ليست تحقيقاً في الإجابة على سؤال «من قتل الرئيس الحريري؟»، وأن المجتمع الدولي يريد معاقبة الفاعل... المسألة تتلخص في سؤال أميركي صرف، هو بالتحديد: «كيف نعاقب سورية من دون أن يعترض أحد؟»
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1183 - الخميس 01 ديسمبر 2005م الموافق 29 شوال 1426هـ