في العام 1961 اضطرت إليزابيث شفارتسهاوبت إلى الدخول في معركة حامية قطعت عليها فرحتها كونها أول امرأة ألمانية حصلت على منصب وزاري، عندما ضمها المستشار المحافظ كونراد أدناور لتشكيلته الوزارية. لكن أدناور ظل على عادته يفتتح اجتماع الحكومة بتحية جميع الوزراء بمن فيهم الوزيرة: صباح الخير أيها السادة، كان معروفاً عن أدناور معارضته مشاركة النساء في السياسة وهو ما تجلى في معاملته للوزيرة شفارتسهاوبت، فعندما طالبته مناداتها بالسيدة الوزيرة قال لها إنه يتعين عليها التعايش مع لقب الوزير. ولم تشعر شفارتسهاوبت بالإحباط وسط عالم الرجال وقررت التحرك للحصول على الاعتراف بلقب السيدة الوزيرة ونجحت في ذلك وبقي هذا أبرز إنجاز ارتبط باسمها بعد وفاتها في العام .1989 هذه المرة أعدت إدارة المراسم في برلين اللقب الجديد لأنجيلا ميركل مسبقاً. ففي القانون الأساسي الألماني تقول العبارة التي تشير لاقتراح رئيس الجمهورية تفويض رئيس الحكومة الجديدة: «بناء على طلب من رئيس الجمهورية يقوم البرلمان بانتخاب المستشار» ولم يقل الدستور «مستشارة». والاسبوع الماضي حين انتخب البرلمان الألماني لأول مرة منذ تأسيس ألمانيا العام 1949 امرأة لمنصب المستشار يضاف أنها أول امرأة من جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة تتقلد هذا المنصب الرفيع، وذلك بعد مضي 15 سنة على إعادة توحيد الشطرين. واللقب الجديد الذي حصلت عليه زعيمة الاتحاد المسيحي الديمقراطي أنجيلا ميركل (51 عاما) هو: سعادة مستشارة جمهورية ألمانيا الاتحادية السيدة الدكتورة أنجيلا ميركل، وتجلس ميركل اليوم على عرش السياسة الألمانية وذلك في فترة زمنية قصيرة، إذ قبل 15 سنة حين تمت الثورة السلمية في ألمانيا الديمقراطية السابقة بدأت الحائزة على دكتوراه في الفيزياء العمل السياسي حين اختارها رئيس وزراء آخر حكومة في ألمانيا الديمقراطية لوثار دوميزيير لمنصب المتحدث باسم حكومته التي تفاوضت مع حكومة بون على إدماج الألمانيتين. وضمها المستشار هيلموت كول لأول حكومة تشكلت بعد أول انتخابات لعموم ألمانيا في العام 1990 وشاء القدر أن تنقلب ميركل التي كان كول يناديها: «يا فتاتي»، على مستشار الوحدة وسعت إلى الإطاحة به عن سدة الاتحاد المسيحي الديمقراطي في العام 2000 على أثر الخسائر المادية والمعنوية التي هزت الحزب الذي تزعمه أكثر من عقدين، ومهدت بذلك لخلافته في هذا المنصب. ولم تنجح ميركل في الانتخابات المبكرة التي طالب بها المستشار السابق غيرهارد شرودر بالفوز بالغالبية، لكن حزبها ظل يصر على حقه في تشكيل حكومة جديدة وفي نهاية المطاف الذي رافقه جمود سياسي واقتصادي في ألمانيا اتخذ شرودر خطوة التنازل عن المستشارية لصالح ميركل. وحصل خلال ذلك تغيير في زعامة الحزب الاشتراكي، إذ استقال هانز مونتفيرينغ بصورة مفاجئة وحل مكانه ماتياس بلاتسيك وهو مثل ميركل من أبناء جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة. بعد 15 سنة على إعادة توحيد ألمانيا يلمس المرء التغيير الذي حصل في هذا البلد. لأول مرة حصل ألمان من الشطر الشرقي على مناصب سياسية بارزة. سيجري قياس كل من ميركل وبلاتسيك بنتائج عملهما، وقد حصلا على منصبيهما في وقت تعاني فيه ألمانيا من ضعف في اقتصادها وخصوصاً في ظل وجود خمسة ملايين عاطل عن العمل. وبالنسبة إلى المراقبين يعد الاشتراكيون بلاتسيك لينافس ميركل على المستشارية في انتخابات العام .2009 لكنهما مضطران الآن للتعاون وتنفيذ برنامج الحكومة الجديدة الذي أقره اتفاق الائتلاف. ميركل من هامبورغ، حيث انتقلت أسرتها إليها بعد أسابيع قليلة على ولادتها في مدينة تمبلين التي تبعد مسافة 80 كلم عن برلين. في العام 1961 أقام نظام برلين الشرقية الجدار الفاصل وكتب القدر أن تنشأ ميركل في ظل نظام اشتراكي كابنة راعي كنيسة. في صباها كانت تغير أصدقائها الشباب باستمرار ثم تزوجت وطلقت وتزوجت في نهاية الثمانينات من عالم في الكيمياء يدعى يواخيم زاور، الذي يرتبط منذ وقت بعلاقات قوية مع علماء إسرائيليين ويعرف عنه عزوفه عن الإدلاء بتصريحات للصحافيين إلا إذا تعلق الأمر بأبحاثه العلمية، فالرجل يرفض رفضاً قاطعاً أن يحصل على شهرة على حساب العمل السياسي الذي تقوم به زوجته. تدرك ميركل حجم التحديات الجسام التي تنتظرها في الداخل، وهي محاطة اليوم برجال بينهم من لديه طموحات بالحصول على منصبها. وسيتعين عليها اتخاذ قرارات صعبة تدفع الألمان إلى شد الحزام في ضوء المديونية العالية للدولة والجو العام المتشائم. أما ما يخص السياسة الخارجية فإن المراقبين يشيرون منذ الآن لاحتمال عودة الوئام للعلاقات الألمانية الأميركية بعد التوتر الذي خيم عليها بدءاً من العام 2002 حين بدأ جورج بوش يمهد للحرب ضد العراق. كما أكدت ميركل من خلال قيامها بأول زيارة خارجية إلى باريس وبروكسل ولندن ووارسو أهمية علاقات بلدها مع فرنسا وبريطانيا وبولندا ومع المفوضية الأوروبية وحلف شمال الأطلسي. وفقاً لأقوال السفير الأميركي في ألمانيا وليام تيمكين ستزور ميركل واشنطن في العام المقبل، لكن على الفور سيجرى فتح خط ساخن بينها وبين الرئيس الأميركي بوش. بالنسبة للعلاقات الألمانية العربية يبدأ عهد المستشارة ميركل بصدمة، إذ وافقت على اقتراح المستشار السابق غيرهارد شرودر بتسليم «إسرائيل» غواصتين من طراز(الدلفين) يمكنهما حمل رؤوس نووية والبقاء مدة طويلة في قعر البحر على رغم أن ألمانيا تدعو إلى نزع التسلح النووي في العالم، وتتفاوض مع إيران لهدف إقناعها بعدم إنتاج قنبلة نووية. وكشف خبراء عسكريون أن «إسرائيل» تعتزم استخدام الغواصتين للإبحار قبالة شواطئ باكستان والسعودية وإيران للتجسس عليها. وسيحتاج وزير الخارجية الألماني الجديد فرانك فالتر شتاينماير الذي ينتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي لقدرة كبيرة للدفاع عن قرار الحكومة الألمانية منح «إسرائيل» غواصتين وسداد ثلث قيمتهما. على الطرف الآخر بحصول غيرنوت إيرلر على منصب وزير دولة بوزارة الخارجية الألمانية يتوافر للدبلوماسية العربية فرصة الحديث مع سياسي ألماني ملم بقضايا العالم العربي ولديه مواقف صريحة. المؤكد بعد رحيل وزير الخارجية السابق يوشكا فيشر ووزير الداخلية أوتو شيلي تخسر «إسرائيل» حليفين كبيرين لها داخل الحكومة الألمانية. لم تعرف ألمانيا في تاريخها تحيز وزيرين لـ «إسرائيل» مثلما فعل فيشر وشيلي. بينما الأول حظر على نفسه توجيه انتقادات لجرائم «إسرائيل» ضد الشعب الفلسطيني فإن الثاني ظل يربط بين الإسلام والإرهاب. لم يسبق أن زارت ميركل دولة عربية لكن على الأرجح أن السياسة الألمانية تجاه المنطقة ستظل وفقاً للمعادلة الألمانية المعروفة: «إسرائيل» أولاً وبعدها جيرانها. كما ستظل ألمانيا مهتمة بتعميق العلاقات الاقتصادية مع بلدان الخليج. بشأن العراق فإن ميركل أكدت خلال الحملة الانتخابية تمسكها بموقف شرودر وهو عدم إرسال جنود ألمان لهذا البلد، غير أن بوش سيجد الحجة والوسيلة ليقنع ميركل بالمساهمة في تخفيف الأعباء الثقيلة عن كاهل الولايات المتحدة. غير أنه لن يكون بوسع ميركل الذهاب بعيدا في مساعدة بوش حرصاً على عدم إثارة حفيظة الألمان الذين يبغضون الرئيس الحالي للولايات المتحدة. الألمان الشرقيون ينتظرون من ميركل أن تهتم بمناطقهم وتحسين أوضاعهم الحياتية. والألمان عموماً ينتظرون منها أن تسهم في استعادة ألمانيا قوتها الاقتصادية في العالم وحل أزمة البطالة. ماذا ينتظر نساء ألمانيا من أول امرأة في منصب المستشار؟ أنجيلا ميركل ليست بالتأكيد سياسية عبرت في مراحل نموها على أنها تختلف في عملها السياسي عن زملائها الرجال بحكم كونها امرأة ولم تشغل يوماً منصباً وزارياً له علاقة بالمرأة والأسرة. المحررة في صحيفة «زود دويتشه» إيفلين رول قالت: ستشهد ألمانيا نهضة نسائية جديدة فالفتيات سيتعودن على امرأة تظهر كل يوم على التلفزيون تتحدث عن السياسية وتصافح زعماء العالم، وسيشجعهن ذلك على الحذو حذوها. وأما إذا ميركل نفسها تأثرت بنساء في حياتها فهو أمر يكشف عنه وجود كتاب على مكتبها لمؤلفته هيلاري كلينتون التي قلدتها ميركل بتسريحة الشعر ثم ورقة كتب عليها العبارة الآتية: النساء مثل كيس الشاي، لا تعرف كم قوة طعمه حتى تضعه في الماء الساخن
العدد 1182 - الأربعاء 30 نوفمبر 2005م الموافق 28 شوال 1426هـ