سألتني مذيعة عربية: أنت مسلم قطعت كل هذه المسافات لتحضر مؤتمرا للأقباط. .. ما علاقتك بالأقباط أو المسيحيين؟ قلتها وأقولها: أنا جئت لأنه تربطني علاقة مع الانسان. العلاقة الانسانية التي تجعلني كمسلم أرفع صوتي في كل مكان ومع الانسان. فالعدالة الاجتماعية يجب أن تسود، والمسلم أخ للمسيحي والمسيحي أخ للمسلم. والمسيحيون ليسوا بدعا في هذا العالم فلهم حقوق وعليهم واجبات، كما قال الزعيم سعد زغلول: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا". وقال السيد المسيح "ع" وهو يصور أجمل عبارة للتساوي في الحقوق "الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار". وقال الرسول "ص": "الناس سواسية كأسنان المشط". قال الناس ولم يقل المسلمون أو العرب، وهذه دعوة أيضا إلى اللقاء الانساني. دعونا نبتعد قليلا عن السياسة ولنقرأ التاريخ والتراث قراءة منصفة ونطرح سؤالا مهما: لماذا يتم اخفاء كل المعاني والمضامين الاسلامية التي تدعو إلى الحب والتسامح والتعايش؟ لماذا يركز على الروايات الملغمة والمفخخة التي تخرج من سياقها التاريخي أو الملفقة . افهم الاسلام طريقا للحب والسلام واحترام الآخر، لهذا جئت هنا لأعلن تضامني مع اخوتي الاقباط. والسؤال: لماذا قال الله "ولقد كرمنا بني آدم" ولم يقل المسلمون. فكرامة الانسان من كرامة أخيه الانسان. وفي قوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" "الحجرات: 13"، لماذا قال "يا أيها الناس" ولم يقل يا أيها المسلمون أو العرب؟ فالخطاب إنساني في أبعاده. ولماذا قال "شعوبا" ولم يقل "شعبا"؟ لأنه ضد العصبية والطرح الشوفيني. وفي الآية: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، "الانبياء: 107" قال للعالمين وليس فقط للمسلمين. قال "لتعارفوا" لا لتتقاتلوا أو يكره بعضكم بعضا. الإسلام يدعو إلى الالتقاء الإنساني وإلى تعزيز القواسم المشتركة بين بني البشر. وما أجمل أن نطلع على عبقرية الإنسان وجمالية حضارات بني البشر، وفي القرآن: "والأرض وضعها للأنام"، "الرحمن: 10" ولم يقل للمسلمين فقط، لأن الأرض للجميع والعالم أصبح قرية كونية. والرسول "ص" يطرح المضمون ذاته، ويركز على الالتقاء الإنساني "الخلق كلهم عيال الله وأقربهم إليه أنفعهم لعياله". جئت هنا في جمع مسيحي مبارك ومعي القرآن يحدثني قائلا: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" "العنكبوت: 46" قال "بالتي هي أحسن"، وليس الحسنى، وما أجمل أن يكون جدالنا عن الحقوق والعدالة الاجتماعية. أفهم أن الدين هو "المعاملة"، وقول الرسول "لا تبغضوا الله الى عباده". وقال الرسول "وهل الدين إلا الحب". وثقافة الحب والتسامح هي التي يجب أن تسود مع الاديان، فبقدر حبك للآخر تكون متدينا والعكس بالعكس. أنا لا أتحدث مثاليات ولست "يوتوبيا"، وأعلم أن السياسة سممت علائق البشر. السياسة زائلة ولكن الذي يبقى هو الانسانية إنسانية المسلم تجاه أخيه المسلم سنيا أو شيعيا، إنسانية المسلم تجاه أخيه المسيحي. كمسلم يجب أن أرفع صوتي متضامنا مع كل أقلية مسلمة سنية أو شيعية أو مسيحية في هذا العالم. العالم يتسع للجميع، فلماذا نعمل على صناعة الكراهية والحقد ونبذ الآخر. كم من مسلم مرض مرضا عضالا فجاء إلى الغرب فشافاه الله على يد مسيحي. كيف أكره أخي المسيحي وأنا كل صباح أرتل سورة مريم المرأة الوحيدة التي خص الله سورة باسمها. وليس بوسعي إلا ان ارفع القبعة لعطاء البابا يوحنا ومارتن لوثر والسيدة تيريزا. كيف أكره المسيحي وأنا أقرأ أن علي ابن ابي طالب "ع" كان يبكي لمسلمة ومسيحية تعرضتا لغزو العدو أثناء حكومته قائلا: "ولقد بلغني أن الرجل منهم يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلائدها... فلو أن امرأ مات بعد ذلك أسفا لما كان عندي ملوما، بل كان عندي جديرا". ما أجمل البكاء العلوي الانساني للمسلمة وغير المسلمة كمواطنين بعيدا عن الانتماء الايديولوجي. الامام علي "ع" الذي أسماه الكاتب المسيحي الكبير جورج جرداق "صوت العدالة الانسانية"، هو نفسه الذى كتب فيه الشاعر المسيحي بولس سلامة ملحمة شعرية قال فيها : جلجل الحق في المسيحي حتى... عد من فرط حبه علويا، تعلمت من التاريخ أن أحترم الآخر وديانة الآخر، وكلما مررت بكنيسة تذكرت موقف علي "ع" إذ مر ذات يوم مع أحد أصحابه على كنيسة قال صاحبه وهو يشير إلى الكنيسة: "طالما أشرك بالله هاهنا"، فغضب عليه الإمام قائلا: "لا تقل ذلك، بل قل طالما عبد الله هاهنا"، ويا لروعة القول وعظمة الموقف في احترام أهل الكتاب. والإمام علي "ع" عندما ولى مالك الاشتر على مصر راح يوصيه بحقوق المسيحيين والمسلمين قائلا "لا تكن عليهم سبعا ضاريا يغتنم أكلهم كل حين، فهم صنفان إما إخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، وهكذا أسس إمامنا علي ابن ابي طالب "ع" قانون المواطنة في مصر. يكفي ان أحترم القبطي أو الانجيلي التقائي معه في الخلقة والانسانية. ولا غرابة في موقفه الانساني الكبير، ألم يقل فيه الرسول ذات يوم "ان فيك لشبها من عيسى ابن مريم". إن ما يرتكب اليوم باسم الاسلام والمسلمين لا يمثل المسلمين. وإن لكم اخوانا محبين من المتنورين من السنة والشيعة، تدمع عيونهم لآلامكم، وهي مودة أخذناها من القرآن. والسؤال: لماذا نغيب الآية الجميلة عن عقول شبابنا المسلم: "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى" "المائدة: 82" ان النبي عيسى "ع" هو نبينا جميعا، وهو الذي علمنا الحب والتضحية والعمل لاجل الفقراء والمظلومين. ويالروعة وصف علي "ع" للمسيح قائلا "يتوسد الحجر، ويلبس الخشن ويأكل الجشب، وكان إدامه الجوع وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الارض ومغاربها، دابته رجلاه وخادماه يداه". انه قمة من قمم الصعود الانساني، فهو الذي علمنا ان نؤمن الايمان المطلق بكرامة الانسان وحقه المقدس في الحياة الحرة الشريفة. أفهم الاسلام سلاما وتسامحا ووسطية "وكذلك جعلناكم أمة وسطا"، والسلام والاسلام جاءا من مصدر واحد كما جاء في اللغة. لذلك لابد من انصاف البشر، وتجديد الخطاب الديني ومواكبة العصر والتركيز على القواسم المشتركة بين البشر والاستفادة من المنتوج البشري وفق دولة مدنية وليس ثيوقراطية، والتركيز على مفهوم المواطنة وليس الانتماء الايديولوجي أو الاثني أو العرقي أو الشوفيني. عندما استيقظ صباحا على ذراع المنامة واسمع اختلاط صوت الأذان وأجراس الكنيسة، أشعر ان العالم يتجه نحو الخير. دعونا نبني مستقبلا كونيا يقوم على التعايش وليس فيه اضطهاد لأقليات هنا أو هناك. فنعلم أبناءنا الحب، وان لكل دين خصوصيته وأن "لا اكراه في الدين". فمن حق كل أقلية أن تنعم بالحقوق في الحياة المدنية وفي ممارسة طقوسها وان تعامل بمنطق المساواة والعدالة في الوظائف العليا والتوزيع العادل القائم على المواطنة ومبدأ تكافؤ الفرص في كل المجالات الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية، وأن لا يمارس ضدها التمييز. من هنا نحن "مركز الحوار الثقافي في البحرين"، نعلن تضامننا مع كل قبطي مورس ضده التمييز الطائفي. فالاسلام يرفض التمييز ضد البشر سواء كانوا مسلمين سنة أو شيعة أو مسيحيين. فلا لتمييز السني ضد الشيعي أو الشيعي ضد السني او المسلم تجاه المسيحي. دعوني أضع في يد كل واحد منكم غصن زيتون من مسلم يرى فيكم اخوة في الانسانية قبل أن نكون اخوة تحت مظلة أديان تدعو إلى الحب والسلام. عبر مركز الحوار الثقافي نعمل على إرساء الحب والتسامح بين بني البشر عبر مواهب متنوعة من الشباب البحريني المسلم، كل بحسب فنه وإبداعه. فعبر ريشة الفنان الكبير زهير السعيد سنرسل لوحة فنية لللفاتيكان بمناسبة مرور عام على ذكرى وفاة البابا يوحنابولس الثاني، وتم عبر الشباب المسلم إخراج شريط إنشادي "الموسيقيون من السنة والمنشدون من الشيعة" والرسالة رسالة حب للمسيحيين في العالم بمناسبة ذكرى رحيل البابا واسم الشريط "الحبر الأعظم". وهذا العام سنوصل رسائل حب إلى عدة شخصيات سلام في عالمنا العربي، إسلامية ومسيحية، سنية وشيعية، تعبيرا عن التواصل الثقافي التسامحي، إحداها لوحة لصورة "بابا العرب"، قداسة البابا شنودة، تعبيرا عن حبنا له كرمز من رموز الحب والسلام في هذا العالم، وتحية للمناضل المهندس عدلي يوسف لمواقفه الكبيرة في الدفاع عن حقوق الاقليات في العالم العربي وخصوصا الاقباط في مصر. حفظ الله مصر من كل مكروه مسلمين ومسيحيين وكل بقعة على هذه الارض. تعالوا لنبني دولة الانسان في ضميرنا لنراها حقيقة على ارض الواقع ولننشر الحب والتسامح والتعايش في هذا العالم، ولنزرع في عقول أبنائنا ثقافة الحياة لا ثقافة الموت. ثقافة اللقاء الانساني واللقاء الحضاري لا على صدامها. المسيحيون في البحرين يعيشون حرية كاملة في ممارسة طقوسهم، ومملكة البحرين قائمة على احترام الاديان، وقبل عامين أقيم مؤتمر الحوار الاسلامي المسيحي في البحرين والكنيسة الانجيلية ستحتفل بمرور مئة عام على انشائها في البحرين. شعب البحرين شعب يحب التسامح مع الآخر. من حقه أن يكون له حضور في المناصب العليا وفي الحياة السياسية. الأقباط مضطهدون ويجب ان نعمل للدفاع عن حقوقهم خدمة للعدالة الاجتماعية ولمصر الحبيبة وللعدل
العدد 1181 - الثلثاء 29 نوفمبر 2005م الموافق 27 شوال 1426هـ