لا نبالغ ان قلنا ان مخططات وألاعيب ومناورات كثيرة، تجري هذه الأيام لتمزيق وحدة الوطن وفك أواصره، وتحويل أبنائه الى متقاتلين، باسم الدين أو الطائفة أو الهوية القومية. .. ولينظر كل منا داخل دواخل وطنه ليجد شيئا من هذا. ولا نغالي ان قلنا ان مصر هي الآن معمل التجارب الكبرى، التي يجري فيها تجريب بعض هذه المخططات، بعد ان تم اشعال النار الطائفية والعرقية في العراق، ومن قبله لبنان، لكن غلاة المخططين وجدوا ان مصر يجب ان تكون الهدف الاستراتيجي الرئيسي، فاذا ما تمت بعثرتها، تبعثر الآخرون من حولها تلقائيا، واذا ما تم فك وحدتها المركزية التي استمرت آلاف السنين، يسهل بعد ذلك تفكيك دول أخرى في المنطقة بمجهود أقل! اليوم لا نخشى المجاهرة بأن مصر مركز العروبة وأكبر دولة عربية، تتعرض لاستقطاب حاد، شكله داخلي بحت وحقيقته خارجية الينابيع، محتواه الظاهري سياسي واضح، ومضمونه الحقيقي ديني وطائفي بارز، أطرافه مصرية الاسم عربية اللسان، لكن هويتها أجنبية الهوى ذات لكنة أميركية صريحة... والخطورة الظاهرة لكل ذي بصر وبصيرة، ان هذه الأطراف المتأرجحة على أجنحة الاستقطاب، تمارس لعبة خطرة، بل هي مغامرة قاتلة اسمها "شد الحبل" ليس للاستمتاع باللعبة المعتمدة أصلا على قوة العضلات، بل لخنق الوطن بهذا الحبل المشدود فيما بين أطراف الاستقطاب قوية العضلات والتمويلات والتحريضات! وبينما مصر تخوض انتخابات برلمانية شرسة هذه الأيام، لشغل 444 مقعدا، عبر ممارسات تتسم بالعنف والبلطجة وخداع الناخبين وجملة الرأي العام، كان الأمل ان ينتج عن ذلك مجلس نيابي يمثل الأمة خير تمثيل، بكل أطيافها وتنويعاتها السياسية والاجتماعية والطائفية والفكرية... غير ان المقدمات المتمثلة في المرحلتين الأولى والثانية حتى الآن،. تنبئ بعكس ذلك، اذ ان مرشحين كثيرين اثبتوا شكاواهم جنبا الى جنب مع شكاوى منظمات المجتمع المدني المراقبة، ان شوائب وتجاوزات حادة شابت العملية الانتخابية، يسأل عنها كل الاحزاب المشاركة، كما تساءل عنها الحكومة وحزبها. وبقدر اهتمامنا بمتابعة وادانة هذه التجاوزات ومؤثراتها على نظافة الانتخابات ونزاهتها، بقدر اهتمامنا بموضوع أخطر قفز فجأة من بين ثنايا العملية الانتخابية هذه... ونعني حدة الاستقطاب الديني والطائفي، الذي يخرق عيون الجميع، بينما البعض لايزال يهون من أثره على وحدة الوطن وكيان الدولة! ففي الوقت الذي فاجأ التيار "الاسلامي السياسي" المندمج في حركة الاخوان المسلمين المحظورة قانونيا، باجتياح كثير من مقاعد البرلمان في المرحلتين الأولى والثانية، مؤذنا بصعود تمثيله وقوة تأثيره ووضوح وجوده في الشارع "على رغم الحظر"، كان بعض الاقباط المصريين بالمهجر يشيرون ايضا من خلال مؤتمرهم الذي عقدوه الأسبوع الماضي باحدى قاعات الكونغرس الأميركي، وبحضور بعض أعضائه، الى ان مطالبهم من الحكومة المصرية لم يستجب لها، وقد آن الآون "لتدخل دولي وأميركي" لحماية حقوق الاقباط في مصر، وتمكينهم من الحرية في وطنهم. وبدأت مغامرة شد الحبل بين الطرفين بين الاخوان المنتسبين بفوزهم غير المتوقع، وبين كثير من الاقباط في الخارج "كما في الداخل" المذعورين من صعود التيار الاسلامي بهذا الشكل المفاجئ تهويلا الى درجة قول بعضهم ان وصول الاخوان الى الحكم في مصر الآن أو غدا، يعني المجازر والمذابح والتطهير العرقي والحرب الطائفية ضد المسيحيين المصريين!
وربما تكون بعض الهواجس مقبولة وبعض المخاوف مفهومة، لكن مثل هذه المبالغات "المسيحية المتعمدة" لا تقل خطرا عن تلك المبالغات المضادة، التي ترى ان "الاخوان المسلمين" على بعد خطوة من حكم مصر الدولة المدنية الحديثة، التي تعيش في ظل دستور ومؤسسات وقوانين واضحة المعالم، حتى لو تم اختراق بعضها لأسباب سياسية قاصرة ومغرضة. وبقدر ما يضخم البعض من الهواجس المسيحية التي افرزت بعضها نتائج الانتخابات في المرحلتين الأولى والثانية، والتي استغلها "مؤتمر أقباط المهجر" في واشنطن، الى درجة التحريض السافر والجاهل على التدخل الدولي "الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية" بقدر ما يضخم الاخوان من خلال عجلة دعايتهم القوية، من تصاعد التأييد الشعبي لهم والتبشير بقرب وصولهم للسلطة بعد ان اصبحوا أو كادوا ان يصبحوا القوة المعارضة الرئيسية في البرلمان الجديد، أي القوة السياسية الثانية بعد الحزب الوطني الحاكم، الذي يلملم الآن اعضاءه الذين سبق ان استغنى عن خدماتهم لكنهم فازوا فتابوا وعادوا ليضيفوا الى رصيده من المقاعد، تماما كما فعل في انتخابات العام ،2000 التي لم يحصل فيها عمليا الا على نسبة 38 في المئة من المقاعد، لولا استقطاب المستقلين والمارقين والمنبوذين! الأخطر انه وسط هذا الاستقطاب الحاد، بشكليه السياسي والطائفي، على رغم ان الاقباط همشوا في هذه الانتخابات لأسباب غير مقبولة، ولا معقولة، وعلى رغم ان الاخوان لم يحوزوا على الغالبية المطلقة، فإن هناك من يبالغ في تصوير الأمور في مصر، على انها شبيهة بحال الجزائر في نهاية الثمانينات وبدايات التسعينات، حين اكتسحت "الجبهة الاسلامية للانقاذ" "بزعامة رجليها القويين" عباس مدني وعلي بلحاج" المرحلة الأولى من الانتخابات وبينما كانت تستعد للمرحلة الثانية، انقضت المؤسسة العسكرية على الامر كله، وأوقفت اللعبة السياسية المدنية ومن ثم انفتح الباب لعقد من الصراع الدموي والاقتتال الاهلي، الذي ترعرع فيه الارهاب والارهابيون من كل طرف ولون وجنس! مصر ليست كذلك، ولا هي وصلت الى تلك المراحل، لكن مصر تخوض تجربة انتخابية ليست جديدة عليها، وان كانت الشوائب والتجاوزات قد لوثت نزاهتها، ومن ثم فإن سياسة الردع بالتخويف المتبادل، أو المتطاير، هي سياسة خطيرة خطورة شد الحبل الراهنة، بهدف خنق الوطن عبر المبالغة بوجود "فزاعة" هنا أو هناك، فزاعة وصول الإسلاميين الى الحكم من ناحية وفزاعة مطالبة أقباط المهجر بتدخل أجنبي ضاغط في مصر من ناحية ثانية، أو حتى فزاعة الانقضاض على العملية السياسية المدنية، وفض المولد بالقوة الجبرية من ناحية ثالثة.
دورنا الحقيقي ألا نخضع لفزاعات التخويف المعبأة بالاثارة والفتنة، والا ندخل في لعبة شد الحبل بين هؤلاء وأولئك، بل ان دورنا ان نقرأ واقع الوطن قراءة صحيحة، وان نستنتج من هذه الانتخابات ايجابياتها وسلبياتها الكثيرة، وان نعتبر ونتعظ ونصلح لكي نبني ونتقدم بعيدا عن مهرجانات الخطابة الفارغة والشعارات الكاذبة والادعاءات المغلوطة والهواجس المعلبة! وعلى رغم انه لايزال أمام المصريين مرحلة ثالثة من الانتخابات لتكتمل الصورة، فإن نتائج المرحلتين الأولى والثانية، تكشف عن مؤشرات مهمة، نرصدها، لنبني عليها في المستقبل، منها على سبيل المثال لا الحصر: ان نجاح حركة الاخوان في حصد أكثر من سبعين مقعدا حتى الآن: "كان لهم 17 مقعدا في البرلمان السابق" ينتظر ان ترتفع مع المرحلة الأخيرة، لم يأت من فراغ ولا هو نتيجة عمل عشوائي، لكنه جاء نتيجة تكامل ثلاثة عناصر توافرت لديهم وهي الايمان بعقيدتهم، والالتزام التنظيمي الحديدي، والتمويل السخي، ثم المجاهرة بخوض الانتخابات تحديا وسفورا لتفرض نفسها عنصرا في المعادلة السياسية. وفي المقابل فشل ذريع للاحزاب السياسية المدنية "نحو عشرين حزبا" في الحصول مجتمعة حتى على ربع مقاعد الاخوان حتى الآن، وهذا مؤشر على ضعف العملية السياسية والحزبية يهدد صميم الدولة المدنية الحديثة، وقد جاء ذلك نتيجة مخطط الإضعاف المنظم من جانب الحكومة وحزبها الحاكم، لغيره من أحزاب المعارضة، وكأنها اعداء! أما أبرز النتائج ايضا، فهي ان هذه الانتخابات قد هزت نظرية الحزب الحاكم والمهيمن، الرائد أو القائد، التي سرت منذ عودة الاحزاب المتعددة وراثة عن نظرية التنظيم السياسي الموحد الاسبق... لقد اكتشف الحزب الوطني الحاكم انه بعد ان أضعف الاحزاب السياسية المنافسة، ظهرت له فزاعة الاخوان المسلمين من بين الحجب مكشرة عن أنيابها مهددة وجوده في السلطة من الآن فصاعدا، فاذا به يتلفت حوله، من هول الصدمة، باحثا عن دعم المستقلين وعودة المنشقين، طالبا معونة المهمشين من النساء والاقباط ومستغيثا ربما بأشلاء الاحزاب السياسية المعارضة التي سبق ان مزقها! لا نريد ان نستبق الأمور أكثر، فعلينا التمهل حتى اكتمال الصورة، لكن طبيعة الخطاب ومضمونه، تبين من عنوانه كما يقولون، والعنوان كما المضمون غير مريح ولا مطمئن حتى الآن. الا ان ذلك لا ولن يعوقنا عن المطالبة وباصرار دؤوب بإصلاح ديمقراطي حقيقي يغلق كل تلك الأبواب الجالبة للريح الصرصر العاصفة العاتية!
خير الكلام
يقول المعري:
إذا ما عراكم حادث فتحدثوا فان حديث القوم ينسي المصائب
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1181 - الثلثاء 29 نوفمبر 2005م الموافق 27 شوال 1426هـ