قضيت أسبوعا في باريس لعمل، كنت مترددا في الذهاب، بعد جملة أعمال الفوضى التي اجتاحت بعض ضواحي باريس ومدنا فرنسية أخرى لأسابيع، وأصبحت أفعالها اليومية على قمة نشرات الأخبار العالمية، وصدارة أعمدة الصحف. وعندما تذكر باريس فإن هناك شيئا من "النوستلجيا" تطوف بالذهن وتسري في الوجدان، فباريس تعني أكثر من معنى، تعني الحرية والفن والتعصب أيضا. وكما غنى فرانك سناترا مرة "إذا كنت في باريس فهو فصل الربيع"، تلك هي الصورة التي نحب ونكره في الوقت نفسه. في أحد الشوارع الضيقة المتفرعة من شارع سانت جيرمن في قلب الحي اللاتيني الذي قرأنا عنه كثيرا في الأدب الفرنسي والآداب العربية المنقولة، ويعج بالسياح والفنانين والمشردين أيضا، يوجد دكان صغير يبيع العاديات وبعض التحف الخشبية والمصنوعات اليدوية، ومن يعرف الحي نفسه يعرف أنه يشتهر بجانب الكثير من المقاهي والمطاعم المنتشرة بدكاكين صغيرة تبيع كل شيء تقريبا. في ذلك الدكان الصغير كتب صاحب المحل على الفترينة الخارجية ما معناه: "إذا لم يعجبك شيء مما تراه في الفترينة فلا تدخل، لأن ما بالداخل أسوأ مما شاهدت"! اختلفت مع صديقي الجزائري الأستاذ في جامعة السوربون والمطلع بعمق على أحوال فرنسا بشأن ما يريد أن يوصله صاحب الدكان الصغير إلى المتبضع، هل تراه يريد أن يرسل رسالة خفيفة الظل كي يغري المارة بالدخول والنظر إلى ما في الداخل الحافل بغرائب العاديات، أم تراه يريد أن يرسل رسالة معاكسة تقول للمتبضع: لا تضيع وقتي وترغمني على المجاملة مادمت غير جاد في الشراء. طبعا العبارة تحتمل الرمزين بسهولة، يقرأها من يريد بالطريقة التي يريد، إلا أنها عبارة لا تتكرر على صدر فترينات المحلات في أي مكان في العالم... إنها ابتكار باريسي متفرد. بالضبط هي الرسالة التي تريد فرنسا أن ترسلها إلى جمهور ضخم من المهاجرين العرب المسلمين "معظم من قام بالشغب في ضواحي باريس في الأسابيع القليلة الأخيرة هم من هذه الفئة". الرسائل هنا متعددة، فهي ترسل الشيء ونقيضه في الوقت نفسه، كمثل رسائل صاحب المحل الصغير في ذلك الشارع الضيق المتفرع من السانت جريمن، إذا لم تعجبك فرنسا فلا تدخل! وإن أعجبتك عليك باتخاذ قرار بالشراء. الشيء ونقيضه ليس سمة فرنسية، إنها ربما إنسانية على أوسع نطاق، ولكنها أيضا أوروبية، والفرق هو الاعتراف بها أو تجاهلها. فكرة التعصب والتسامح تتغلغل بعيدا جدا في الثقافة الفرنسية. فالتسامح جزء من فلسفة التنوير التي قامت على أكتافها الثورة الفرنسية، ثم حروب نابليون لتحرير أوروبا من التعصب! وكتب في الأدب الفرنسي عن التسامح ربما أكثر من أي أدب عالمي آخر، حتى كتب الأطفال الفرنسية هناك سلاسل ناجحة تعنى بإشاعة مفهوم التسامح. إلا أن ما حدث في ضواحي باريس وبعض مدنها في الأسابيع الأخيرة يغوص عميقا بأكثر مما أعطتنا إياه تقارير المراسلين المتسرعين، وعليك أن تزور باريس حتى تفهم حقيقة ما يجري أو تقترب قليلا إلى الحقيقة. إنها باختصار فشل تطبيق سياسة التسامح التي يتحدث عنها كثيرا. فرنسا وأوروبا تضج بمشكلة اسمها الهجرة، وخصوصا الهجرة من شمال إفريقيا، ليس لأن الأوروبيين يضيقون بالهجرة لأنها تأتي لهم بوجوه جديدة، بل لأن الهجرة مختلفة، فكثير من المواطنين الفرنسيين اليوم هم من أصول مهاجرة، ولكنها مهاجرة من دول أوروبا الأخرى، وليس من الجنوب. المهاجرون من أوروبا سريعو الاندماج في الثقافة الفرنسية، أما فرنسا التنوير فقد نامت عما يجري في مناطق المهاجرين الجدد "العرب المسلمين"، على أمل أن استيعابهم سيكون تلقائيا في وقت ما، وذلك ما لم يحدث، حتى جاء الجو العاصف فانفجرت المشكلة في وجوه الجميع. العجيب أن فرنسا الشعبية أرادت أن تبحث عن سبب، فوجدته بعض وسائل الإعلام الفرنسية في أميركا، وادعت أنها خلف اضطرابات الضواحي الباريسية "كما يفعل كثيرون لدينا"! غريب آخر ذلك المجتمع الذي تكون على خلفية الهجرة والفقر، علينا القول إن نسبة لا بأس بها من عرب شمال إفريقيا في فرنسا لا يشعرون بأنهم جزء من تلك الشريحة الغاضبة والفوضوية، فهؤلاء اندمجوا في المجتمع، وأصبحت لهم حياة الفرنسي العادية، لهم ما له وعليهم ما عليه. من تخلف منهم سقط في فخ الفقر والاقتصاد الموازي وحبائل أفكار ذات منحى أصولي. بعض الشعارات التي رفعت في الضواحي "المتمردة" تشير إلى أن مناطقها هي "مناطق محررة" بعد المواجهات مع الشرطة وتنظيف الأحياء منهم! يعمل المواطن الفرنسي في المتوسط خمسة وثلاثين ساعة أسبوعيا بحسب القانون، ويحصل على ثلاثة أسابيع إجازة مدفوعة، ويتمتع بمستوى عال من الرعاية الصحية، ولديه نظام مواصلات رفيع المستوى، ويدخن، ومع ذلك يتمتع بأعلى نسبة من متوسط العمر في أوروبا قاطبة، وتشترى ربة البيت كل مساء عددا من "الباجيت" الساخن "الخبز الفرنسي" تأكل بعضا منه وهي في الطريق قبل الوصول إلى المنزل. ويشتهر السياسيون الفرنسيون كثيرا بالثرثرة، إلى درجة أن لديهم ما يعرف بسياسة الكلام الكثير الذي يلغي الكلام! ومع ذلك أهمل هذا النظام شبه المحكم والمنظم جزءا كبيرا من المجتمع الفرنسي المهاجر "8 في المئة من الفرنسيين مهاجرون من شمال إفريقيا" حتى حصل الانفجار. إنها عجز الديمقراطية الحديثة في أعلى صورها، وهو عجز يبين الفارق بين أفكار التسامح وسياسة التعصب، ثنائية خبيثة تشتبك مع التناقض بين الفكر والممارسة. أبناء المناطق المحررة كما يدعون هامشيون في كل شيء تقريبا، فهم يعيشون على اقتصاد مواز "مخدرات أساسا مع ما يصاحبها" قليلو العناية بالتعليم، بل إن صديقا ذكر لي أن مفرداتهم اللغوية لا تتجاوز العشرات من الكلمات، ولا يعرفون إلا عبارات قليلة من القرآن الكريم، ولهم "لغة خاصة" يتفاهمون بها فيما بينهم، غالبية آبائهم لا يعرفون القراءة والكتابة، وكانوا يتعاطون أعمالا متواضعة لا يقربها الفرنسي، يعملون ساعات طويلة بأجر قليل. كل هذا أنتج جيل الغضب، مكنهم اعتمادهم على أنشطة الاقتصاد الموازي من السفر إلى الخارج فوصل بعضهم إلى أفغانستان ومن ثم العراق حديثا، بسبب سيطرة بعض قليلي الاطلاع من "الملالي" على فكر بعضهم! أوروبا وفرنسا تستيقظ الآن على ضرورة إبدال ما أصبح قاعدة خلفية للثقافة الغربية وهو "الثقافة المسيحية/ اليهودية"، حتى تصبح "الثقافة المسيحية الإسلامية اليهودية". إنه عصر جديد، أعباؤه لا تقع عليهم "هم فقط" بل علينا نحن أيضا في عالم أصبحت فيه نتائج العولمة تكاد تجعل الدنيا التي نعيش بها واحدة من دون حدود فاصلة. إننا في الحقيقة جميعا مضطرون إلى أن ندخل المحل، حتى لو لم تعجبنا البضاعة المعروضة
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1180 - الإثنين 28 نوفمبر 2005م الموافق 26 شوال 1426هـ