لم يكن قبل عامين من يتكلم في البحرين عن شيء اسمه "ليبرالية". كل أنواع الخطوط والتيارات الفكرية والسياسية مرت من هنا، قومية ويسارية وإسلامية وبعثية وماركسية، إلا الليبراليون! في الكويت من المألوف الحديث عن هذا التيار، فله أسماؤه ورموزه ونضالاته التي تبعث على الاحترام، أما هنا فلم يوجد إلا في كتب النظريات والتواريخ. العارف بتاريخ البحرين وما شهدته من صراع اجتماعي، اتخذ أشكالا وألوانا شتى. بلد عاش قلقا طوال سبعين، بحثا عن الكرامة والخبز وحقوق الإنسان. هذا الحراك الاجتماعي لم يكن الليبراليون طرفا فيه، فقد كانوا دائما خارج اللعبة، وكانوا يختارون دائما الجلوس على مقاعد المتفرجين. في أحلك ظروف الصراع الاجتماعي السياسي التي مرت بالبلاد، لم يكن يسمع لهم صوت، فـ "السلامة... السلامة" كانت شعار طبقة المداهنين. لم يرتفع لهم صوت احتجاجا على ممارسات القمع الرسمي المنظم ضد التيارات الوطنية المختلفة لعدة عقود. صم بكم فهم لا ينطقون. ولكي لا ننسى، ولكي لا يتسلق أحد على ظهور الكادحين، أزعم انه ليس لدينا شيء اسمه "ليبرالية" ولا "ليبراليون" حقيقيون، فالقصة بدأت بكتابات ساخرة ضد فئة متقلبة لا تعرف معنى الالتزام تجاه الوطن والإنسان قط، ومع الأيام انتهت المزحة إلى "مسلمة" يكاد يصدقها الجميع! أذكر جيدا ما شهدته الساحة الإعلامية قبل عام، من بروز بعض "المتخبطين" في تناول القضايا العامة، مقالات شتائم، و"افتتاحيات" استعراضية مليئة بالأشعار والأقوال المترجمة تساق عادة لتبرير سياسات حكومية، وعندما يرد عليهم أحد يكون الجواب: "آنه ليبرالي"! وبسبب مثل هذه الممارسات والكتابات الهجينة، اكتسبت "الليبرالية" سمعة سيئة جدا في الذهنية العامة للبحرينيين. في هذه الفترة، وللتأريخ، بدأنا نستخدم مصطلح "الليبراليين الجدد"، تشبيها بـ "المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة، من باب التندر على هذه الفئة المتقلبة مع أهواء الحكومة دائما. تتذكرونهم قبل سنوات، كانوا يلعنون الديمقراطية لأنها "لا تصلح لمجتمعنا وعاداتنا وتقاليدنا"، فلما جاءت الديمقراطية كان عليهم أن يغيروا موجة الإرسال، إذ اكتشفوا فجأة أن الديمقراطية هي الشورى نفسها بشحمها ولحمها التي جاء بها الإسلام! كان هؤلاء يراهنون على أن للمواطن البحريني ذاكرة مؤقتة "زءح"، سرعان ما ينسى، ولكن من سوء حظهم أنه يتمتع بذاكرة ثابتة من نوع "زدح"، مازالت تختزن الكثير من الكتابات المقيتة المناهضة لتطلعات الشعب في العدل والمساواة والإصلاح وحكم القانون. الحشد الأخير، يستوجب مراجعة هذه المعطيات "التاريخية"، فالنكتة أصبحت تمتلك شعارا يتباهى به، واجتماعات تبحث عن أضواء. ولم يكن لأحد أن يعترض على أي تجمع شعبي مادام يمثل مواقف ومصالح مشروعة لمجموعة من المواطنين. بل إن مثل هذه التجمعات تستوجب الترحيب مبدئيا لكونها تسهم في فرز القوى الفاعلة في المجتمع، وليأخذ كل ذي حق حقه، من التغطية والإعلام وإحراز الحقوق. "التنظيم" الجديد في أول تحرك أوقع نفسه في مطب كبير، إذ اختار شعارا هو أبعد ما يكون عن جوهر الليبرالية: "لنا الحق"، فالحق لا يمكن أن تحتكره مجموعة مهما كانت وتكون. وكان الأرشد لهذا التجمع لو اختار شعارا أكثر تواضعا، وأقل استبدادية وترفعا: "لنا حق"، ليقبلوا باعتبارهم "شركاء في الوطن"... وقديما قالوا: "رحم الله من عرف قدر نفسه". الإشكال الآخر أن هذا "التنظيم" الجديد، خليط هلامي من الشخوص، بعضها جاء من الرفوف الأكاديمية، وبعضها من البازار، وبعضها من جمعيات كل منتسبيها من جيل المتقاعدين. بل إن جزءا كبيرا من "التنظيم الجديد" هم من المعتقين في الأجهزة الحكومية لعقود. هذا الخليط الهلامي، بدا متجانسا على بعضه بعضا، والذي بدا شاذا بينهم هو إبراهيم شريف، رئيس جمعية "وعد"، لا ندري كيف ذهب للفخ برجله، وهو الذي استبق الحدث بقوله: "ان الخط الليبرالي ليس له تعريف واضح". وعبر عن رفضه استخدام المصطلح للتعبير عن الحرية الشخصية فقط، "فالليبرالية تهدف لتغيير العلاقة بين الحاكم والمحكوم أيضا" على حد قوله. وهذا القول من المؤكد أنه لن يوافق عليه القادمون من الوظائف الحكومية المترفة أو من جمعيات المتقاعدين أو حتى من تجار البازار! الغريب أن "الحرية الفردية" هي التي جمعت هذا الحشد في ثلاثة أيام، بينما لم يفلح في جمعهم قانون "أمن الدولة" الذي عاشوا تحت ظلاله منعمين ثلاثين عاما. وفي عهد الإنفتاح، لم يثر نخوتهم إقرار قانون "الجمعيات"، ولا محاولات تمرير "التجمعات" و"الإرهاب"، ولا سياسات التمييز المدمرة، ولا حتى التهام الأراضي العامة في وضح النهار. التنظيم الجديد يبحث عن أضواء وتغطيات إعلامية، وعن مؤيدين في ساحة تنبذه، معتمدا سياسة استجداء مفضوحة للحكومة، علها تتلاحق على حرياتهم الشخصية المهددة بالانقراض! مصطلح ابتذلوه ولاكوه طويلا مثل نواة التمرة، وشعار متعجرف يدعي احتكار الحق، حركة ابتدأت بنكتة، وانتهت باجتماع واستنفار... هذه هي الليبرالية المستبدة في جلدها الثعباني الجدي
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1180 - الإثنين 28 نوفمبر 2005م الموافق 26 شوال 1426هـ