بعيدا عن تلك الإشكالات التنظيمية والاتهامات بالتدخل والتزوير، تعتبر الانتخابات التشريعية هي المخرج من أزمة تعاني منها مصر منذ عقود. فما يحصل في مصر إعادة اعتبار للأطراف المكونة للدولة والمجتمع، وخطوة نحو تجديد تجربة المصالحة بين الأطياف الرئيسية ومحاولة رسم معالم صورة غابت طويلا عن البلاد العربية. مصر دائما حاضرة في الوجدان العربي حتى لو قررت السلطة فرض الانكفاء والتخلي عن الموقع والدور الريادي. ومصر في هذا المعنى هي رمز وهي أيضا ذاك النموذج الذي يؤثر في حركة المنطقة صعودا وهبوطا. وهذا الموقع والدور هما من ثوابت مصر مهما كانت السياسة التي تقررها السلطة. قدر مصر أن تكون في الواجهة حتى حين تقرر السلطة تقليل أهمية موقعها ودورها والانكفاء إلى الداخل واختيار طريق العزلة. طبيعة مصر لا تنسجم مع سياسة الانكفاء إلى الداخل، وتاريخها الطويل يمنع عليها سلوك سياسة الانعزال. بهذا المعنى العام، لابد من مراقبة ما يحصل في مصر في إطار خطة التصالح المفترضة بين الدولة والمجتمع. فالانتخابات هي معيار، وهي حقل اختبار لموازين القوى، ومحاولة استرداد ميزان العدالة بين دولة حاولت مصادرة مواقع المجتمع ودوره المستقل في صناعة المتغيرات وبين منظمات عجزت عن دفع مجتمع الانفتاح والتسامح إلى التطرف وبالتالي الانغلاق على نفسه والعالم. أهمية مصر أنها أكبر من مساحتها الجغرافية، ولذلك شكلت ذاك النموذج العربي الذي يؤثر في المحيط الإقليمي. وتأثيرها لا يقتصر على الدولة منذ الثورة الدستورية التي قادها سعد زعلول إلى ثورة يوليو التي قادها جمال عبدالناصر. وانما تأثيرها يشع أيضا من خلال المجتمع وتلاوينه السياسية والثقافية. فالنموذج المصري لا يقتصر على موقع الدولة ودورها، وإنما يشمل موقع المجتمع ورموزه. والرموز المصرية لا تختزل بتلك الأسماء التي تبوأت المواقع الرسمية في الدولة، وإنما أيضا تشمل تلك الأسماء التي تحولت إلى منارات فكرية وسياسية وثقافية في البلاد العربية. وتأثير مصر ينبع أصلا من هذا التناغم بين قوة الدولة وقوة المجتمع والتوازن المعقود على مصالحة تاريخية بين هيئات رسمية ومراكز قوى شعبية. ورموز مصر في هذا المعنى كثيرة ويصعب تعدادها على مختلف المستويات. لذلك لا يقل تأثير المجتمع على المنطقة أهمية من تأثير الدولة. أهمية الرموز التي أنتجتها مصر تكمن في هذا التنوع من الأمثلة والنماذج. فعند الحديث عن الليبرالية هناك رموز مصرية. كذلك حين يتم التطرق إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان والانتخابات. كذلك الحديث عن الثورات والانتفاضات والدساتير والبرلمانات. مصر دائما حاضرة في الوجدان العربي حتى في الفترات التي حاولت فيها السلطة تغييبها عن موقعها ودورها. فعند الحديث عن الدولة يفرض التاريخ المصري حضوره. وعند الكلام عن حروب الفرنجة وفلسطين يسطع اسم مصر في كل حاضرة عربية. وحين يتفرع الحديث وينتقل إلى الإسلام تظهر تلك الأسماء التي غابت عن الدنيا، ولكنها لاتزال محفورة في كل مكان. ومن يريد التكلم عن الاحزاب لا يمكنه تجاهل كل تلك الهيئات من الوفد إلى الإخوان المسلمين. وعلى خلاف الظاهرة "الوفدية" التي استقرت في مصر انتشرت حركة الإخوان وامتدت واتسع نطاق تأثيرها إلى حدود جغرافية تجاوزت العالم العربي. فمن لا يعرف أو يسمع أو يقرأ رسائل حسن البنا وكتابات سيد قطب؟ كذلك، من لا يعرف أو يسمع أو يدرس أو يقوم بزيارة جامع الأزهر وقلعة محمد علي وميدان سيدنا الحسين... وصولا إلى النيل وأهرامات الجيزة وسد أسوان وقناة السويس؟ كل هذه الأسماء والرموز على تعارضها وأحيانا تناقضها صنعت مصر أو مصر صنعتها. وهي في النهاية شكلت وتشكل وحدة مؤتلفة تؤكد التنوع في إطار شخصية تاريخية عربية إسلامية تتكامل مع خصوصية جغرافية إقليمية وقارية. بعيدا عن التنافس الحزبي الذي شهدته وتشهده الانتخابات المصرية للفوز بغالبية مقاعد مجلس الشعب، فإن ما يحصل يجدد حديث الذكريات عن تلك المصالحة المفقودة بين المجتمع ورموزه الشعبية، والدولة ورموزها التمثيلية. ومن دون هذه المصالحة تخسر مصر الكثير ويخسر العرب ذاك النموذج المطلوب. هذه حقيقة، ومن الصعب تجاهلها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1179 - الأحد 27 نوفمبر 2005م الموافق 25 شوال 1426هـ