في لقاء سابق مع مراسل أردني لإحدى الفضائيات الكبرى في العالم العربي، وجدت نفسي وجها لوجه مع رجل أشبه بناطق رسمي باسم أبومصعب الزرقاوي، الذي يتفاخر بجهاده العظيم في قتل الأبرياء. حال مرضية لا تجدها في غير العالم العربي والإسلامي، إذ يتحول مثقف إعلامي إلى متعاطف متحمس مع قوى القتل والارهاب. أصوله الفكرية الأولى تعود إلى حركة "الاخوان المسلمين"، يتكلم بحسرة عن سيد قطب، وكيف اغتاله نظام عبدالناصر دون رحمة. ولو بقيت معه أسبوعا لأكمل لك سلسلة من المحاضرات النظرية عن العدل وحقوق الأقليات وأهل الذمة في الإسلام. لكنه عندما يتحدث عن العراق، يتحول إلى مخلوق آخر، لا يعرف الموضوعية ولا العدل والاعتدال... ولا حقوق المسلم على الإطلاق. هذا المراسل - النموذج، تخرجه مواقفه المسبقة عن حدود المهنية والموضوعية، وهو ليس نموذجا شاذا أو غريبا في بلد مثل الأردن وكثير من الدول العربية الأخرى. فنحن أمام ظاهرة مخجلة، إذ أصبح هؤلاء من عوامل التخدير وإشاعة التدليس وتبرير جرائم القتل في دولنا العربية، ذات التربة الحاضنة لثقافة الإقصاء والتهميش وإخراج الآخر من الملة ولعنه على المنابر. ومن عادة المجتمعات المخدرة، أنها لا تستيقظ من سباتها إلا على صوت الهزات والزلازل، وهذا ما حدث في عدد من الدول العربية، ولكن جاءت الصحوة متأخرة... بعد أن سالت الدماء. ومع ذلك، "أن تأتي "الصحوة" متأخرة خير من أن لا تأتي على الإطلاق" كما يقول المثل الانجليزي! اليوم، المتابع للصحافة العربية، يرصد هذا التحول الكبير في بلد الزرقاوي، بدءا من تبرؤ قبيلته منه إلى يوم الدين، وانتهاء بإعلان الملك حربا لا هوادة فيها على الإرهاب. على أن الأهم هو ما يحدث من مراجعة فكرية مهمة في ساحة ظلت نهبا للكتاب المبشرين بثقافة سفك الدماء. الكاتب الأردني محمود الريماوي، كتب الأسبوع الماضي في "الحياة" مقالا تحت عنوان "تفجيرات عمان تخلخل الخطاب التقليدي للنخبة"، يعتبر رصدا أمينا لما يجري في الساحة الأردنية، باعتبارها إحدى الساحات التي ظلت تصفق طويلا وترقص نشوة لعمليات القتل العبثي في العراق العربي المسلم. يقول الريماوي ان تفجيرات الأربعاء الأسود في عمان وضعت قناعات النخبة أمام تحد جسيم، و"مع ان السمة العقائدية للنخبة القومية، بتلاوين يسارية ووطنية وإسلامية، إلا ان مقتضيات التضامن القومي لم تحملها على تحسس معاناة شعب شقيق هو جزء لا يتجزأ من هذه الأمة، ولا حملهم على احترام خيارات هذا الجزء في تقرير مصيره الوطني، وصوغ نظامه السياسي الجديد. بل ان حق هذا الجزء من الأمة في الحياة لم يكن ليستوقف كثيرين من رموز هذه النخبة"، فإلى هذه الدرجة وصل تخدير الأدمغة وصدأ القلوب. ويذهب الريماوي في تحليله الدقيق إلى القول ان "استراتيجية القاعدة وأنصار النظام السابق في العراق، كانت قائمة على ترويع المدنيين والثأر منهم لترحيبهم بزوال النظام، والحؤول دون قيام نظام تمثيلي جديد ترتضيه الغالبية الغالبة من المواطنين، فيما أبدى هؤلاء صمودا لافتا أمام التهديدات، وبما يشكل استفتاء على الخيارات الكبرى للمواطنين العراقيين". ويلفت الريماوي إلى ان "الروابط القومية الحميمة التي يجري التذرع بها ورفع لوائها، لم تفلح في إدراك محنة العراقيين، فلما وقعت تفجيرات عمان لم تملك هذه النخبة غير التنديد بأقوى العبارات بهذه الجرائم". مشيرا إلى أن المشكلة تكمن في "الخط الأصلي" القائم على "سياسة الأرض المحروقة والنفط المحروق، وإزاحة أي أحد من طريق الاستيلاء على السلطة، وحرمان العراقيين من تقرير مصيرهم بملء إرادتهم، واغراق العملية السياسية الناشئة في نزاع أهلي دموي"... وتخيير العراقيين بين عودة "الاستقرار السابق" أو الغرق في "الانتحار الجماعي". في نهاية مقاله، يذهب الريماوي إلى ان فورة الغضب والنقمة الشديدة في الشارع الأردني، هي التي فرضت على "النخبة" تغيير خطابها باتجاه إدانة الإرهاب، في أول خلخلة لخطابها التقليدي. وهو يصف بذلك مأساة عربية، حين يكف القلب عن الخفقان، وتجف النفوس "العروبية" من المشاعر الإنسانية، فلا يزول الخدر إلا عندما تنزل الكارثة ويبدأ السيف قي قطع الرقاب. طبعا ليس هناك جديد ولا خطير فيما جاء به الريماوي بالنسبة للمواطن البحريني، فكل كلامه معروف لدينا، منذ استولى صدام حسين على السلطة إلى حين العثور عليه مختبئا في جحره التاريخي الشهير! إلا ان الجديد اليوم أن مثل هذه القراءة "الأخرى" تأتي من ساحة ضاعت فيها البوصلة، فخرج منها شخص كالزرقاوي، كما خرجت منها مقولة "الهلال الشيعي"، وفيها تم تخدير أعصاب شعب عربي على أيدي النخبة القومية، بمختلف تلاوينها، يسارية ووطنية وإسلامية... وما كان للخدر أن يزول، على رغم التحذيرات الصادرة من المسئولين في بغداد، إلا بكارثة تقع على رؤوس الجمي
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1178 - السبت 26 نوفمبر 2005م الموافق 24 شوال 1426هـ