كانت ذكرى الاستقلال مناسبة لتذكير للبنانيين بالقيمة السياسية الإنسانية الحضارية في الالتزام بالحرية والسيادة في تدبير أمورهم، وتقرير مصيرهم، وتحرير مواقفهم وعلاقاتهم من كل ارتهان لأية قوة خارجية بالمستوى الذي تصادر فيه أوضاعهم وقراراتهم الحيوية والمصيرية، بحيث يرفضون الخضوع لأي وصاية دولية أو إقليمية، لتكون علاقاتهم بالآخرين مرتكزة على المصالح المتبادلة والاحترام المتقابل، ليفرقوا بين الخضوع للجهات الأجنبية وبين التعامل معها في الخطوط العامة على أساس السيادة. وهذا ما ينبغي لهم أن يدرسوه على مستوى الواقع الحاضر الذي ربما يشعر فيه البعض بأن لبنان يرزح تحت تأثير الضغوط الدولية التي تتحرك باسم الرعاية لمصالحه، وذلك من خلال تحويله الى ورقة تحركها أميركا للضغط على أكثر من وضع سياسي أو أمني في المنطقة العربية، ولاسيما فلسطين وسورية والعراق. وفي هذا الاتجاه، لايزال الاحتلال الإسرائيلي الذي تدعمه أميركا ويؤكده مجلس الأمن الذي لا يرى في مزارع شبعا أنها لبنانية، فلا يرى الحق للبنان في الدفاع عنها، الأمر الذي يشجع العدو على الاستمرار في احتلالها... وهذا ما لاحظناه في البيان الذي أصدره مجلس الأمن في تحميل المسئولية للمقاومة الإسلامية على حركتها في صد العدوان الإسرائيلي على المنطقة، من دون أية إشارة إلى الخروقات الإسرائيلية اليومية للبنان. لقد كنا نود أن ينطلق النادي السياسي اللبناني للحديث بقوة ضد العدوان الإسرائيلي، والإعلان عن تقدير موقف المقاومة في صده وتقديم الشهداء على مذبح الحرية، ولكن البعض لايزال يمنح "إسرائيل" العذر على استمرارها في احتلال المزارع بحجة أنها ليست لبنانية، كما لو كان ذلك يبرر لها احتلالها إذا كانت الأرض عربية، وهذا هو الذي يوحي بأن المسألة الإسرائيلية لا تمثل لدى البعض خطرا على لبنان وعلى محيطه، بل الخطر عنده من الجانب العربي! إن المطلوب في ذكرى الاستقلال أن يعرف العرب والمسلمون أن أي بلد عربي أو مسلم لن يكون مستقلا مادام الاحتلال يطبق على البلاد الأخرى، فمادامت فلسطين واقعة تحت الاحتلال الصهيوني، وبدعم أميركي وإقرار من أكثر من دولة في العالم، ومادام العراق واقعا تحت الاحتلال الأميركي، بالإضافة إلى أفغانستان بشكل مباشر، مع أكثر من دولة عربية وإسلامية محتلة بشكل غير مباشر، فمن الصعب أن تكون هناك أية دولة منفتحة على الاستقلال بشكل مطلق. إننا في ذكرى الاستقلال لابد من أن نؤكد الوحدة الوطنية التي لا تمزقها العصبيات الطائفية، والأطماع الشخصانية، والخلفيات الحزبية، ليقف الجميع أمام قضايا البلد بالحوار الموضوعي العقلاني الذي ينفتح على التواصل والتعاون والتكامل، ودراسة كل مشكلات الإنسان في هذا البلد، وكل حركية العلاقات مع المنطقة العربية ولاسيما سورية على أساس الاحترام المتبادل، لنعرف كيف نؤكد السيادة على مستوى الواقع، لا على مستوى الشعار المتحرك في حالات الانفعال. وفي هذا الجو، فإننا - من موقعنا العربي والإسلامي - نتابع أوضاع الشعوب المستضعفة من خلال الضغوط القاسية التي تحركها الإدارة الأميركية ودول العولمة لاستغلال خيراتها، وتدمير اقتصادها، والعبث بسياستها، واهتزاز أمنها، وهذا ما يتمثل في منطقة الشرق الأوسط وفي المناطق الإسلامية كالبوسنة والشيشان وكوسوفو وإفريقيا وغيرها، مما يعاني فيه المسلمون والمستضعفون معاناة شديدة من الفقر والمرض والإذلال والسقوط العام. ولعل أكثر المواقع قسوة هو الاحتلال الصهيوني للقدس المسجد والمدينة وفلسطين كلها، لارتباطها بالمقدس من جهة وبالمستقبل المنفتح على حرية الأمة من جهة أخرى، ما يفرض على منظمة المؤتمر الإسلامي القيام بالدور القوي الفاعل لمواجهة المشكلات كلها بالتخطيط والإعداد على جميع المستويات، من خلال المسئوليات التي تتحملها المنظمة في موقعها الإسلامي. أما العراق، فإن الاحتلال الأميركي البريطاني لايزال يضغط على حريته واستقلاله، تحت تأثير الخدعة السياسية في حديث المحتل بأنه باق في أرضه لحماية أمنه بحجة أن قواه الأمنية لا تملك القيام بهذا الدور... ونحن نلاحظ أن الفوضى الأمنية والمجازر الوحشية الإرهابية التي تجتاح المدنيين الأبرياء يوميا تزداد مع بقاء الاحتلال الذي لم يحاول أو لم يستطع إنقاذ أمن الشعب العراقي من ذلك، ولذلك فإننا نعتقد أن انسحاب قوات الاحتلال هو الذي يمكن أن يحقق النتائج الكبرى للعراقيين. ومن جانب آخر، فإننا نتمنى أن يكون مؤتمر الوفاق في القاهرة قد أدى الى نتائج إيجابية على صعيد التفاهم واللقاء بين أطياف الشعب العراقي وقواه السياسية، ولاسيما أمام الانتخابات القادمة التي نريد لها أن تنجح في اختيار أفضل الكوادر المخلصة للعراق من قبل الشعب كله، بعيدا عن الطائفية والعرقية، ليكون الصوت واحدا في تحرير البلد من الاحتلال، وفي بناء العراق على أساس من القوة والوحدة والنظام والانفتاح على المستقبل الإسلامي الحضاري الذي يحتفظ للعراق بهويته، لينطلق في دوره الطليعي بالتكامل مع الواقع العربي والإسلامي برسالته، وليعيش كل أفراد شعبه في رخاء وأمن وحرية ووحدة وانفتاح. ونصل إلى لبنان الذي أصبح في الآونة الأخيرة ساحة مستباحة لأكثر من موقع من مواقع الوصاية، بحيث رأينا السفير الأميركي يتدخل في التفاصيل الداخلية، كما أصبح ساحة مستباحة للخروقات والاعتداءات الإسرائيلية. لقد كنا ننتظر أن ينطلق صوت دولي واحد يدين خطف "إسرائيل" لمواطن لبناني من عرض البحر، أو يحملها مسئولية كشف أمره، أو أن يندد بالطلعات الجوية المتكررة والغارات الوهمية فوق لبنان لتخويف اللبنانيين من المدنيين الآمنين، وإلقاء المناشير بشكل عدواني واستفزازي لمحاولة التأثير النفسي على اللبنانيين، حتى إذا قامت المقاومة الإسلامية بالرد على الاعتداءات ارتفعت الأصوات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، لاستنكار العمل الدفاعي المقاوم، لأن هذا الواقع الدولي يمنح الحرية لـ "إسرائيل" في العدوان ولا يجد للمقاومة الحق في رد العدوان عن شعبها وبلدها. إن هذه التطورات الأمنية تؤكد حق المقاومة في إبقاء سلاحها في حال جهوزية قوية للدفاع عن لبنان، وندعو اللبنانيين إلى الاستمرار في دعمها والوقوف صفا واحدا في مواجهة العدوان، وفي السعي لتحقيق الحلول الواقعية العملية للمشكلات اللبنانية المستعصية، والابتعاد عن العصبيات الطائفية والحزبية، ليكون الصوت واحدا من الجميع: ليبق لبنان سيدا حرا مستقلا موحدا منفتحا على قضايا الإنسان اللبناني في مناطقه المحرومة، وفي إنسانه المثقل بالجوع والحرمان ومتاهات الضياع السياسي
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1178 - السبت 26 نوفمبر 2005م الموافق 24 شوال 1426هـ