التوافق السوري - الدولي بشأن التحقيق مع خمسة مسئولين في مبنى للأمم المتحدة في فيينا بعد خلافات قانونية على مكان وآليات الاستجواب يشير إلى استعداد دول مجلس الأمن الكبرى لإعادة النظر في شروط نص عليها القرار . 1636 فالموافقة لا يمكن أن تحصل من جانب واحد ومن دون مشاورة قام بها رئيس لجنة التحقيق ديتليف ميليس مع الدول صاحبة النفوذ في الأمم المتحدة. فالمحقق ميليس لا يجرؤ على اتخاذ مبادرة بهذا الحجم ويتحمل مسئولية كبيرة من دون العودة إلى المراجع الدولية لأخذ موافقتها على حل وسط يلتقي مع دمشق في منتصف الطريق. على ماذا تدل هذه الليونة الدولية؟ سؤال لابد من طرحه لفهم مجموعة "تنازلات" أقدمت عليها واشنطن في المدة الأخيرة. فالسؤال لا يتعلق بنقطة واحدة وإنما يطاول حالات مشابهة تشير إلى وجود استعداد أميركي للتخلي عن سياسة "البلطجة" وفرض الرأي الواحد على المنظومة الدولية. فقبل قرار الموافقة على نقل مكان التحقيق من لبنان إلى النمسا وضمن آليات دولية تحترم القوانين المتعارف عليها جرت في القاهرة سلسلة جلسات في مبنى جامعة الدول العربية بين أطياف المعارضة العراقية والمجموعات المتعاملة مع الاحتلال للحوار والتوافق على صيغة مشتركة تخرج بلاد الرافدين من الكارثة التي وصلت إليها. وفي السياق المذكور يمكن أن نقرأ الصيغة المرنة التي توصلت إليها الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا بشأن الملف النووي الإيراني. فالوكالة مالت إلى التريث وأعطت فرصة للوساطة الروسية قبل أن تبادر إلى إحالة الملف إلى مجلس الأمن الدولي. هذه الخطوات على ماذا تدل؟ هل هناك بداية مرونة في المواقف الأميركية وبالتالي بدأت واشنطن تعيد النظر في سياسات سابقة بعد أن لاحظت وجود نوع من الممانعة لدى الجهات الإقليمية المعنية بالقرارات أو حتى بالتهديدات التي أطلقتها إدارة "البيت الأبيض". قد تكون الليونة الظاهرة في تلك المواقف ناتجة عن بداية ضعف في استراتيجية الهجوم الأميركية بسبب نمو اعتراضات عربية ودولية ترفض الانجرار مجددا نحو مغامرات عسكرية أثبتت فشلها في تحقيق انتصارات سياسية. وقد تكون تلك المرونة محاولة لأخذ راحة وكسب فرص من خلال إرسال إشارات أميركية للقوى الدولية الكبرى تريد منها واشنطن مساعدتها على تحقيق مكاسب مشتركة من دون حاجة إلى استخدام القوة العسكرية كما حصل سابقا في أفغانستان والعراق. من الصعب الآن تقديم جواب نهائي قبل اتضاح عناصر الصورة. فالليونة لا تدل دائما على وجود حالات ضعف وإنما أحيانا تشير إلى محاولة ابتكار أساليب مختلفة للوصول إلى الأهداف المرسومة. وبعيدا عن التكهنات فإن تلك الإشارات الأميركية ترسم في الأفق بدايات لقراءة مختلفة لمشكلات كانت واشنطن تصر على حلها بالأسلوب الذي يناسب مصالحها من دون اعتبار لتوازنات القوى وتوازن المصالح. وهذه البدايات التي لم تتضح معالمها يمكن ربطها في سياق سياسي مشترك يتمثل في وجود استعداد أميركي للتنازل عن بعض الشروط والتوافق على حلول تلتقي مع الأطراف المضادة في منتصف الطريق. ما حصل في القاهرة مثلا من حوار وطني عراقي برعاية عربية كانت واشنطن ترفضه. ومجرد قبولها بحصول حوار بعيدا عن مظلة الاحتلال يعني بداية تفكير بإعادة النظر في قراءات سابقة. كذلك قبول واشنطن بالبيان الختامي للأطياف العراقية يدل على وجود استعداد للتفاوض على رغم الشروط والتحفظات التي وضعتها على بعض النقاط والفقرات. الأمر نفسه يمكن ملاحظته في شأن الملف النووي الإيراني. فواشنطن كانت تضغط سابقا على دول الترويكا الأوروبية "فرنسا وألمانيا وبريطانيا" باستعجال نقل الملف إلى مجلس الأمن ثم أخذت تبدي استعدادها لإعطاء فرصة للوساطة الروسية قبل اتخاذ مثل هذه الخطوة. وهذا يشير إلى نوع من الليونة لم يكن موجودا في الأسابيع الماضية. كل هذه البرودة الملفتة في تناول ثلاثة ملفات ساخنة في "الشرق الأوسط" بدءا من العراق وانتهاء بسورية ولبنان وإيران تدل على أن هناك بداية لصورة أميركية لم ترتسم ملامحها النهائية، ولكنها أخذت تظهر في أفق العلاقات الدولية. فالصورة غامضة وملبدة ومرتبكة وغير واضحة الألوان حتى الآن. وبانتظار ارتسام الخطوط العامة والتفصيلية لمعالمها لابد من الانتباه لمختلف الاحتمالات وخصوصا أن السباق شارف على الوصول إلى أشواطه الأخيرة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1178 - السبت 26 نوفمبر 2005م الموافق 24 شوال 1426هـ