ثمة بوادر انفراج في الملف النووي الإيراني، والإشارات القادمة من وراء سلسلة جبال "زاغروس" والتي حملها الرئيس العراقي جلال الطالباني إلى العاصمة الإيرانية ترسم ملامح استراتيجية "الخروج المنظم" و"المضمون" للقوة العظمى من بلاد الرافدين. ومن القاهرة، يبدو أن ثمة "تغطية" إقليمية عربية قدمت لانطلاق هذه الاستراتيجية الجديدة، إذ سيكتب التاريخ أن "الامبراطور" الذي ظل فخورا باجتياح أفغانستان والعراق "بأمر" من الرب! اختار العام 2006م بحكمة عاما للانسحاب من "بابل" قبل أن يحاصره "البارثيون" الجدد في "طيسفون" كما حاصر البارثيون القدامى امبراطور الرومان "تراجان" في العام 117م... بالائتلاف مع قوى التمرد المتعاظمة على الامبراطور الروماني، لكن طريق "هوشي منه" الإيراني يتعبد أكثر فأكثر اليوم في سورية مجددا من أجل الدفاع عن "حصن" العرب الأقوى في جنوب لبنان. الإشارات التي أطلقها الرئيس السوري حديثا من العاصمة السورية تفيد بأن ثمة استراتيجية مواجهة يتم الإعداد لها على قدم وساق في القرى والأرياف والمدن السورية. أما طهران التي تبدو في زمن "وقف إطلاق نار" مستمر مع الامبراطور الروماني الجديد منذ "11 سبتمبر/ أيلول"، فإنها لا تخفي استعداداتها الدبلوماسية والسياسية والثقافية والأمنية والعسكرية لمواجهة أي "انقلاب" محتمل على "التوافق الجنتلماني" بينها وبين "الشيطان الأكبر" بشأن خريطة العراق الجديد. ثمة تسوية في الأفق بين الثلاثي الأوروبي وطهران في إطار الوكالة الدولية للطاقة النووية "بضمانة" روسية وارتياح صيني لعبور مرحلة الزوابع التي ظلت بكين تحذر منها وتنصح طهران بـ "الانحناء" المؤقت أما م العاصفة الدبلوماسية الإعلامية إلى حين الانتهاء من استراتيجية الخروج التي كانت تؤكدها بكين منذ مدة. صحيح أن طهران تبدو غير مكترثة كثيرا بنداءات حلفائها العراقيين المتكررة للأميركيين بعدم الانسحاب المبكر، لكنها بالمقابل على أتم الاستعداد لمواجهة أي خطر يمكن أن يتحول من الكمون إلى الفعل من جانب الحاميات التي يتم تكريسها على امتداد حدودها الغربية. وحدها الدولة العبرية تبدو هذه الأيام الطرف الأكثر ارتباكا أمام الاستقطاب الحاصل بين استراتيجية "الخروج المنظم" الأميركي وخطة المواجهة المتجددة على طريق "هوشي منه" الإيراني الجديد. نعم، قد تكون هناك ثمة ثغرات جدية في مشروع "المواجهة" الجديد المعنون من دمشق بسبب التنافر العراقي السوري، إلا أن الزلزال السياسي الذي تعيشه نخب تل أبيب الحاكمة قد يدفعها إلى التصعيد مع رأس رمح مشروع "هوشي منه" الجديد، أي مع حزب الله لبنان. وهو ما ظهر خلال الأيام الأخيرة سواء عسكريا أو في إطار حرب المنشورات التي أطلقتها على لبنان، إلا أن المراقبين يجدون في ذلك - إن استمر - الهدية الذهبية التي ستقدمها الدولة العبرية للممانعين في كل من طهران ودمشق وبيروت، ليقلبوا الطاولة على عهد "ميليس" والإمساك بزمام المبادرة في معادلة الاستقطاب بين استراتيجية الخروج ومشروع "هوشي منه" الجديد. يبقى الملف الفلسطيني مؤجلا إلى حين استتباب الخريطة السياسية الإسرائيلية الداخلية والأخرى الفلسطينية الداخلية، وهذا بدوره قد يصبح سلاحا جديدا بيد الممانعين لمشروع التسوية الأميركية الشرق أوسطية فيعتبرون أن كل خرائط الطريق القديمة قد تقادم عليها الزمن، وأن الظروف المقبلة تتطلب خريطة طريق جديدة أطرافها لن يكونوا محصورين بأطراف شرم الشيخ وطابا و... ثمة ظروف وحيثيات جديدة تتبلور في المنطقة وإفرازات لعناصر وأطراف جديدة ستلعب دور المشارك الأكثر فاعلية في صناعة القرار في المعادلة العربية والإسلامية من القاهرة مرورا بغزة والضفة في فلسطين، وصولا إلى العراق الجديد الذي سيبلور بدوره عناصر ممانعة جديدة على رغم كل "اللغط" الذي يحيط بمظاهر التفتت والتصدع العراقي، إلا أن ذلك مجتمعا ينبئ بتحول ملحوظ في موازين القوى اللاعبة في معادلة الشد والجذب بين استراتيجية الخروج ومشروع طريق "هوشي منه" الجديد. في واشنطن، كما في طهران، ثمة من يفكر بالطريقة نفسها للوصول إلى أهداف متضادة. وجوهر هذه الطريقة عنوانه، على ما يبدو، القول الشهير لأحد الحكماء القدامى، إذ يقول: "ليس العاقل من يميز الخير من الشر، بل من يعرف خير الشرين"! فخير الشرين لواشنطن أن تلملم جروحها في العراق وتبدأ بتنفيذ خطتها المؤجلة منذ مدة للانسحاب المنظم و"المضمون" من العراق مع حفظ ماء الوجه قدر الإمكان عبر غطاء القاهرة الإقليمي والعربي. وخير الشرين لطهران، على ما يبدو، هو أن تؤجل "الدورة النووية الكاملة" لحين مرور الزوبعة الأميركية مقابل البحث، لملفها النووي، عن حل وسط أوروبي - روسي - صيني عالم ثالثي متروك للظروف والحيثيات المشتركة المرتقبة الجديدة أن تبلوره مع الزمن مع الحد الأدنى من الاعتراف العالمي بإيران دولة نووية مسجلة في النادي النووي الدولي مع "وقف التنفيذ" إلى حين! الذين يعتقدون بوجود مثل هذه "التسوية" المفروضة على الجانب الأميركي يقرأون ما يحصل في جنوب لبنان من مناوشات حديثا على أنه نوع من خلط للأوراق تسعى إليه الأطراف المختلفة "إسرائيل" أولا لترحيل زلزالها السياسي الداخلي إلى الخارج، وأميركا ثانيا للاستفراد بلبنان المقاوم وإحراجه أمام "الأكثرية" الجديدة، وفرنسا ثالثا لإثبات "صدقية" مشروعها الخاص باستعادة دورها "الحائر" بين الأقطاب الدولية والإقليمية، وسورية رابعا لاختبار ثقافة المقاومة من جديد استعدادا لاستثماره في سياسة المواجهة المتجددة لديها، وإيران خامسا من أجل "تعبيد" طريق "هوشي منه" المتجدد إلى حين انجلاء الضباب من حول مشروع العراق الجديد.
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1177 - الجمعة 25 نوفمبر 2005م الموافق 23 شوال 1426هـ