هناك حقائق تاريخية/ معرفية غابت عن وعي النخبة العربية "الحداثية". وهذا الغياب أسهم لاحقا في تعطل بنية العقل العربي وعجزه عن تطوير آليات المعرفة واكتشاف قوانين التطور الخاص بالتاريخ العربي/ الإسلامي. فالفكر العربي في عصر نهضة أوروبا وقع أسير الدهشة من تطور الغرب وتخلف العرب. ولعبت حال الدهشة دورها في تأسيس ثقافة اتكالية تستخدم منتوج الغير ظنا منها أن "الحداثة" يمكن استيرادها مثلها مثل البضاعة. وبسبب هذه النزعة الاتكالية شهد الفكر العربي حالات انتقال "ارتحال" من فكرة أوروبية إلى أخرى. حتى أصبح تعريف المثقف يخضع لتصنيفات مدرسية فلسفية. هذا هيغلي، وذاك ديكارتي. هذا كانطي وذاك وجودي. هذا ماركسي وذاك فيبري "ماكس فيبر"... إلى آخر التوصيفات "المستوردة" من الخارج. حتى الفكر القومي "العربي وغير العربي" استمد تعريفاته من القواميس الأوروبية وتلك المدارس والحركات السياسية التي تفرعت تياراتها الأيديولوجية في محطات زمنية مختلفة في بلدان القارة. وكذلك الفكر الاشتراكي معطوفا على تلك النظريات التحررية أو الاقتصادية "الليبرالية" أو التنظيمية "البرلمانية والديمقراطية والنقابية" جاءت تصوراتها نسخة "طبق الأصل" عن تلك المفاهيم التي تبلورت في أوروبا من خلال الصراع والتطور العمراني. حتى الموسيقى "العربية المعاصرة" جاءت من مسروقات استنسخت من مقطوعات أجنبية، كذلك فنون الرسم والنحت والعمارة. إلى الآن لايزال الفكر العربي على أنواعه يعاني من تلك التوصيفات والتصنيفات والتعريفات من دون إدراك من أصحابه أن تلك المفاهيم تأسست على طور عمراني مغاير ولحظات تاريخية متباينة مع آليات العمران "الاجتماع العربي/ الإسلامي" وأسس تطوره التاريخي. وهذا النوع من التفكير عطل كثيرا إمكانات التطور الفكري المستقل وقطع الطريق على الإبداع والابتكار وإنتاج مفاهيم متقاربة مع حركة الواقع. لم يقتصر الكسل على مستوى المثقف وإنما أيضا طاول السلطات السياسية والأحزاب الأيديولوجية. فالكثير من النخب استلهم أو تأثر بالحركات الفكرية التي اكتسحت أوروبا في فترة زمنية معينة. واستفادت هذه الشريحة من "الحداثيين" وقلدت في وقتها تلك الحركات ونقلت نموذجها حرفيا إلى المنطقة العربية. وبعد سنوات غابت تلك الحركات "الفاشية، النازية، والفرانكونية مثلا" عن ساحات أوروبا وحلت مكانها مدارس فكرية مضادة بينما استمرت الأحزاب والمنظمات والهيئات تعيد تكرار وتقليد تلك الاتجاهات الأوروبية التي لم تعد موجودة في القارة. هذه المفارقة تكشف ذاك الفارق بين الأصيل والوكيل أو بين المنتج والمستهلك. ونظرة سريعة إلى سيرة حياة قادة أو مؤسسي الكثير من تلك الأحزاب والمنظمات والهيئات تعطي فكرة عن ذاك العطل البنيوي الذي أصاب العقل العربي المعاصر بدءا من نخبته وتحديدا تلك الشريحة التي سافرت إلى أوروبا في مطلع القرن الماضي وعادت إلى أوطانها في العشرينات والثلاثينات والأربعينات. فهذه الشريحة العائدة إلى الوطن من بلاد الاغتراب نقلت معها تصورات عن حالات أوروبية مؤقتة وتأثرت بها وقامت بتقليدها وتأسيس أحزاب مشابهة في تنظيمها وأفكارها. فالكل غرف من افران أوروبية. وبسبب اختلاف العجينة تشكلت مجموعة ارهاصات فكرية تستهلك منتوج الغير ولا تؤسس لحالات مفارقة عن تلك التي استوردت مصادفة من هذه الجامعة أو تلك. قراءة سريعة لأفكار "الفكر العربي المعاصر" تعطي صورة مصغرة عن الجامعة التي درس فيها هذا "القائد الملهم" أو ذاك "المعلم القائد" أو "الأستاذ" وغيرها من ألقاب أطلقت على زعماء ومفكرين وهم في النهاية مجرد كتبة أو "نقلة" ترجموا بعض المفاهيم والآراء عن لغات أجنبية "ألمانية، فرنسية، إنجليزية، إيطالية، وأحيانا روسية" وأعادوا صوغها في نصوص "عربية". فالنصوص المكتوبة بالعربية ليست عربية في الجوهر وإنما هي مجرد اجترار، تكرر ما قاله الغير من دون وعي لسلبيات التجاوز التاريخي لتطور الواقع المعرفي. هذا النوع من الفكر البائس أوصل المنطقة العربية/ الإسلامية إلى بطالة فكرية مكشوفة ومقنعة تدفع الأمة فاتورته على مختلف المستويات. ومشكلة هذا الصنف من المفكرين الذي غيبه الموت ورحل عن حياتنا بعد أن رحلت قبله تلك الأفكار من أوروبا نفسها، لايزال يلعب دور "المعلم" أو "الأستاذ" أو "المبشر" في صوغ الكثير من المفاهيم المبتورة التي تربت عليها شرائح واسعة من الأجيال العربية. أزمة الفكر العربي المعاصر والمأزق الذي تعيشه "الحداثات" العربية والضياع الذي وصلت إليه الأجيال الجديدة... كلها نتاج تلك التوهمات الأيديولوجية التي صاغتها مجموعات درست في جامعات الغرب وتأثرت بمدارس أوروبية فلسفية أو تيارات سياسية كانت مزدهرة آنذاك فعادت إلى الوطن حاملة معها بضاعة أجنبية ورحلت عن الديار من دون تأسيس منهجية تفكير تقرأ الواقع من خلال ماضيه ومعارفه. حتى الآن لاتزال تعاني الأمة من تلك المنقولات "النقليات" النصوصية لا العقلية التي بدأت في لحظة اندهاش الطهطاوي حين عاد من باريس ولاتزال عقليته "فكر الدهشة" تتوارث جيلا عن جيل إلى أيامنا. فالأجيال تغيرت إلا أن العقلية نفسها لاتزال تسيطر على الذهنية العربية. والأسماء تتغير وتختلف ولكن منهج الاتكال والاستيراد والارتحال من فيلسوف إلى آخر ومن مدرسة إلى أخرى ومن نموذج إلى آخر هو هو لم يتعدل أو يتبدل. في السابق كان يقال هذا "قومي" وذاك "اشتراكي". وهذا "وجودي" وذاك "فاشي". وهذا نيتشوي "نيتشه" وذاك سارتري "سارتر"... إلخ. وفي أيامنا يقال هذا "سوريالي" وذاك "تكعيبي". وهذا "تفكيكي" وذاك "تركيبي". حتى المصطلحات والمفردات والتعريفات ترجمت ولم تبذل تلك الجهود لإعادة إنتاجها على الأقل في ضوء حركة الواقع واختلافه والزمن وتحولاته. النقل من دون إبداع وتفكير وإعادة إنتاج أدى إلى مفاقمة أزمة الفكر العربي المعاصر وأبطل تطور "الحداثات" العربية وجعلها في النهاية أسيرة مقولات جاهزة وجامدة تنقصها الشوكة "روح العصبية كما يقول ابن خلدون" وقوتها الحرارية التي تولد الاندفاع وتدفع طاقة الإنسان نحو التقدم والتطور وصولا إلى الدولة "الاستقرار". انعدام تلك الطاقة "الشوكة" في "الحداثة" العربية المتخلفة أسس مجموعات هلامية وتكتلات فكرية تنقصها المخيلة وروح الإبداع والتخيل والبحث عن معرفة قادرة على إدراك قوانين الواقع وتصور حركة التاريخ العربي/ الإسلامي. وغياب هذه الطاقة يمكن ملاحظته على تعدد المستويات وفي مختلف الميادين من السياسة إلى الاقتصاد ومن المعرفة إلى الأحزاب. وليس صعبا كذلك أن نجد ما يشابه تلك الحالات في السلطات والنخب الثقافية والعلمية. والحكومات العربية أيضا هي نتاج تلك التوهمات الأيديولوجية التي أسست سياسات اقتصادية تجريبية انتقلت بحسب تبدل ظروف المكان والزمان والضغوط الدولية من حال إلى حال. العقلية واحدة وإن اختلفت عناوينها. والمشترك هو القبول بالإملاءات عن قناعة أو مسايرة أو مصلحة. وهذه الذهنية الاتكالية/ الارتحالية منتشرة وممتدة من المحيط إلى الخليج ولا فارق بين عربي وآخر سوى بعض تلك التفصيلات التي لا تغني ولا تفقر.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1176 - الخميس 24 نوفمبر 2005م الموافق 22 شوال 1426هـ