قادتها عملية البحث عن اسم جديد إلى هذا الاسم: دوريس جلوك. ومعنى كلمة جلوك بالعربية "حظ" لكن يبدو أن الحظ لم يكن من نصيب هذه السيدة الألمانية التي كان الناس ينادونها باسم عائشة حين تزوجت من رجل مصري وكتب لها القدر أن تسافر معه إلى البوسنة والهرسك حين كانت الحرب الأهلية دائرة في منطقة البلقان والصرب يفتكون بالمسلمين والكروات تحت سمع وبصر الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي. ثم نصحتها صديقة أن تختار اسم دوريس جلوك لربما وقف الحظ في هذا الوقت العصيب إلى جانبها. هذه السيدة التي تحكي قصتها تبدو أكبر من سنها البالغ اليوم 49 عاما. راحت تشعل السيجارة تلو الأخرى وهي ممسكة بعلبة السجائر بيدها كأنها الشيء الوحيد الذي لا تريد التخلي عنه بعد أن خسرت كل شيء منذ أن فقدت السيطرة على حياتها. حصل هذا التغيير في حياتها في يوم من أيام خريف العام 1987 حين تعرفت على رجل في مقهى "بونر كافي" وسط مدينة بون. على مقربة منها جلس رجل أجنبي سرعان ما طرح عليها بعض الكلام وما حدث بعد ذلك كأنها استقلت معه عربة قطار سريع كانت سرعته تزيد باستمرار. بعد وقت قصير تزوجت من الرجل الذي كانت تسميه: رجلي المصري وكي تثبت تمسكها بزواجها سافرت معه في التسعينات إلى البوسنة حين قرر المشاركة مع مجاهدين عرب في الدفاع عن مسلمي البوسنة. قالت دوريس جلوك "عائشة سابقا" لصحيفة "زود دويتشه" الصادرة بمدينة ميونيخ: هناك، في البوسنة، كان زوجي يضربني وسجنني في البيت وعلمت أنه تزوج من بوسنيات وأنا سعيدة اليوم لأنني مازلت على قيد الحياة. بعد أن قررت عائشة التخلي عن اسم عائشة والعودة إلى ألمانيا طرقت الشرطة الفيدرالية الألمانية باب بيتها طلبا لمعلومات عن زوجها المشتبه في ارتكابه أعمالا إرهابية ولأنه من وجهة نظر أجهزة الأمن الألمانية متهم بالتخطيط لتفجيرات بالي التي وقعت في خريف العام 2002 وراح ضحيتها أكثر من 200 قتيل. بالنسبة إلى الألمان فإن دوريس حين كانت عائشة لابد وأنها حصلت على معلومات مثيرة عن نشاط الخلية التي كان زوجها المشتبه في انتمائه لـ "القاعدة" يتزعمها. وضعت الشرطة الفيدرالية الألمانية اسم دوريس جلوك على قائمة الأشخاص الذين تتولى حمايتهم وحصلت على راتب شهري ورضيت بالتعاون مع الدولة الألمانية وكانت الصفقة تقضي بأن تقدم دوريس معلومات مقابل الحصول على الحماية وعلى مال. يعتقد أن هناك 339 شخصا في ألمانيا يحصلون على هذه المعاملة، 252 منهم قدموا معلومات عن منظمات الجريمة و18 قدموا معلومات تتعلق بأمن الدولة من بينها الإرهاب. هكذا دفع القدر بدوريس جلوك إلى مغامرة جديدة بعد كل التجارب المريرة التي مرت بها خصوصا في البوسنة. قد يكون الشعور بضرورة الحماية وكذلك الحصول على مال أبرز دافع لها لتتكلم وتبدأ بنشر الغسيل القذر. قالت إنها سمعت باعتقاله في إندونيسيا عبر وسائل الإعلام وقالت إنها شعرت بسرور لأنها أصبحت تعتمد على نفسها بعد انفصالها عن المصري وبدأت العمل بوظيفة لكن سرعان ما عادت حياتها السابقة تشغلها من جديد حين طرق بابها عملاء الشرطة الفيدرالية BKA الذين قالوا لها إن زوجها السابق اعتقل في جاكرتا وهو متهم بالتخطيط لعمليات إرهابية وأن الدولة ترجو منها أن تتعاون وتقدم معلومات مفيدة في التحقيقات وفي الحرب المناهضة لـ "القاعدة". كان واضحا أن الشرطة الفيدرالية تريد معرفة كل شيء عن المدعو رضا زيام، الذي استطاع أن يستخدم زواجه من عائشة للحصول على الجنسية الألمانية. أوضحت دوريس أنها قررت في اليوم ذاته قبول عرض الشرطة الفيدرالية وغادرت بيتها بعد أن تركت رسالة قصيرة لصديقها الذي تعرفت عليه بعد الانفصال وكانت في تلك الليلة بصدد عمل ما هو مخالف لتعاليم الإسلام: طهي الملفوف الألماني مع لحم الخنزير. قالت إنها استجابت من دون تفكير لرغبة عميلي الجهاز الألماني ووقعت على تعهد بالتعاون بعد أن سمعت منهما أن حياتها في خطر ويتعين عليها مغادرة مسكنها الحالي وما كان إلا أن حزمت حقيبتها على عجل وجلست في سيارتها تقتفي أثر سيارة عميلي الشرطة الفيدرالية من دون معرفة الوجهة. بتوقيعها على الاستمارة خولت الشرطة الفيدرالية مهمة تغيير حياتها. قامت الشرطة بفصلها من وظيفة العمل وأنهت عقد الإيجار. في الفترة الزمنية التي تلت أصبحت تعيش في فنادق مختلفة بعد أن استقرت تعيش تحت اسم مستعار في ولاية جديدة. ما مرت فيه دوريس جلوك من تجارب يعرفها الأشخاص الذين تضمهم أجهزة الأمن المحلية لبرنامج الحماية حرصا على تقديمهم معلومات تدين الآخرين، لذلك تقوم الدولة برعايتهم كي لا تتعرض حياتهم إلى الخطر. حتى الأصدقاء والأقارب لا يحق لهم معرفة مكان وجود الشاهد. بعد عملية الاختفاء من الحياة السابقة أصبح على دوريس جلوك الإجابة على أسئلة كثيرة، وعلى مدى سنة بالكامل. قدمت دوريس جلوك كما ذكرت لصحيفة "زود دويتشه" صورة كاملة خلال هذه الفترة كيف تحول رجلها المصري من مهاجر عادي إلى إسلامي متطرف في خدمة "القاعدة". قالت إنه راح يزور أحد المساجد ويقضي معظم أوقاته مع إسلاميين إلى أن فاجأها ذات يوم بمشاهد فيلم يظهر فيه جنود صربيون اصطفوا لاغتصاب مسلمة بوسنية وقال إنه ينبغي عليه أن يدافع عن شرف المسلمين في البوسنة. كانت البوسنة في التسعينات مثل الشيشان وأفغانستان والعراق اليوم، مكانا مركزيا للمجاهدين. لم تقو عائشة على البقاء وحيدة في ألمانيا بعد أن قرر زوجها السفر للجهاد في البوسنة ودفعها حبها له لمرافقته في رحلة الجهاد. بحسب أقوالها أمضت بعض الوقت في قرية بوسنية وكان لا يسمح زوجها لها الخروج من دون حجاب من المسكن وأمرها عدم الكلام مع أحد وأوضحت أن زوجها كان يزعم أنه يعمل مع منظمة إنسانية لإغاثة المنكوبين لكنه في الحقيقة كان يحارب ضد الصرب. حين سألها عملاء الشرطة الفيدرالية عن سبب عدم انفصالها عن زوجها مبكرا أجابت أنها كانت تحبه كثيرا ربما حتى اليوم مستعدة أن تغفر له أخطاءه معها. وفقا لأقوالها كان رضا زيام يجمع تبرعات لـ "القاعدة" وقام بتصوير أفلام دعائية عن هذا التنظيم. أقوال دوريس جوبلز والمعلومات التي تم جمعها عن زوجها السابق أثارت اهتمام محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة التي أنشأتها الأمم المتحدة في العاصمة الهولندية. فقد ذكرت الشاهدة أنه كتب عليها رؤية المجاهدين وهم يعدمون صربا وقعوا في الأسر وأحد المعتقلين جرى قطع رأسه. وقالت إن زوجها لم يقتل أحدا. كما أقوالها عن تفجيرات بالي لم تثبت صحتها. المدعي العام الأعلى يحقق حتى اليوم ضد رضا زيام المتهم بالانتماء لتنظيم إرهابي أجنبي والتخطيط في تفجيرات إرهابية لكن المعلومات التي يملكها المدعي العام الألماني ليست كافية لرفع دعوى ضد المتهم الذي يعيش اليوم حرا طليقا في مدينة برلين. كثير من الإسلاميين يعيشون هكذا مثل زيام لصعوبة ثبوت الأدلة ضدهم. لكن عوضا عن مثول زيام أمام المحكمة فإن زوجته السابقة مهدت لرفع دعوى أمام المحكمة ضد الشرطة الفيدرالية الألمانية! في الغضون أصبحت العلاقة سيئة بين دوريس جلوك والشرطة الفيدرالية بسبب الخلاف على المال. وقالت إنها تشعر أن الدولة خدعتها وتخلت عنها حين لم تعد تشعر بالحاجة لخدماتها. وأبلغت الصحيفة الصادرة في ميونيخ أن كل ما تريده أن تستعيد حياتها السابقة بعد تغيير عناوين الإقامة وتغيير باروكات الشعر وصولا إلى عمليات جراحية لتغيير معالم الوجه. وأوضحت أنها لم تعد قادرة على مواصلة لعبة القط والفأر وأن هذه الحياة التي صنعتها الشرطة الفيدرالية باتت تهدد مصيرها عوضا عن أنها لم تعد قادرة بالحصول على وظيفة عمل لعدم اقتناع أحد بسيرة حياتها ثم من يوظف امرأة معرضة للخطر بصورة دائمة؟ كل شيء تغير في حياة دوريس جوبلز حين وقعت على استمارة الانضمام لبرنامج الحماية بدءا بالاسم وانتهاء بتاريخ الميلاد ثم أن صديقها أي حبها الجديد لا يعرف حتى اليوم مكانها وما مرت به من تجارب. ولأنها منذ العام 2004 لم تعد تلقى دعما ماليا من الشرطة الفيدرالية ولا عملا؛ تعيش اليوم عالة على مساعدة الدولة ولذلك قررت مقاضاة الشرطة الفيدرالية ومطالبتها بتعويضات. رد الشرطة الفيدرالية جاء باردا: يتعين على السيدة جلوك أن تعتمد على نفسها. أنه الموقف الذي فتح عيون الشهود الآخرين وخصوصا أن حياة دوريس جلوك مازالت معرضة للخطر. تشعر دوريس أنها كرة تقاذفتها أرجل كثيرة بدءا بزوجها السابق ثم بالدولة الألمانية التي خدمتها وتشعر اليوم بغضب عارم عليها. حين وقعت تفجيرات في بالي حديثا سألت نفسها إذا كان زوجها السابق ضالعا في القضية لكن عملاء الشرطة الفيدرالية لم يطرقوا بابها هذه المرة. كيفما ستكون نتيجة الدعوى التي رفعتها دوريس جوبلز فإن حياتها لن تعود كما كانت في الماضي
العدد 1176 - الخميس 24 نوفمبر 2005م الموافق 22 شوال 1426هـ